طائف يلم بي إذا أغرقت في النوم فيأمرني بصوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة أن أحفر شيئاً يسميه طيبة ويسميه برة ويسميه المضنونة، فإذا سألته عما يريد أنصرف شخصه وأنقطع صوته، وأفقت حائراً مذعوراً. لقد هممت يا سمراء أن أقص رؤياي هذه على الكاهن، وأن أصف له ما أرى وما أجد، ولكني أشفقت أن يتحدث الناس عني أني مجنون، أو أن يتندر بي فتيان قريش فيقولوا: أن له رَئِيَّا من الجن. أشيري ماذا ترين؟ قالت سمراء: هِوِّن عليك ولا تغل في الخوف ولا تسرف في الإشفاق، ما أكثر ما يلم أمثال هذا الطيف بالناس عندنا في البادية، فلا يحفلون ولا يأبهون، ومع ذلك فما يمنعك أن تتقرب أنت إلى الآلهة في غير توسط للكاهن، ولا توسل به، قم فضح لهم وقرب إليهم فسيرضون، وسيرضى الفقراء والجائعون، وسيغيظ ذلك قوما من قريش.
وما هي الا ساعات حتى كان فناء المسجد يموج بالناس، فيهم الفقراء، قد أقبلوا من البطاح والظواهر. وفيهم الأغنياء قد أقبلوا يقدمون الضحايا بين أيديهم. هؤلاء يتنافسون أيهم يغلي الضحايا ويكثر منها. وأولئك ينتظرون ويمنون أنفسهم بغريض اللحم وجيده، لقد سمعوا بأن عبد المطلب يريد أن يضحي، وان بني هاشم قد حفلت لذلك، فكرهت أمية أن لا تفعل فعلهم وكرهت مخزوم أن تسبقها عبد مناف، فأقبل أشراف قريش يستبقون في التضحية، ويتنافسون في القربان! تنافسوا. تنافسوا أيها الأشراف! استبقوا أيها الأغنياء! فان في ذلك شبع الفقراء وسعادة الأشقياء.
وقضت مكة يوما دامياً سمينا، كثر فيه الطعام وكثر فيه الشراب ورضيت فيه الأصنام، وسعد الفتى بما رأى، ونسى الفتى ما كان يهمه وينغصه، وقدر الفتى أن قد صرف عنه الشر ورد عنه المكروه، ورضيت سمراء. فتحدثت كثيراً، وسمعت كثيرا وأضحكت زوجها وابنها الحارث بملح الأعراب، ونوادر البادية. وقالت لزوجها وهي تمسح رأسه: أحبب إليَّ بهذا الطائف الذي أرقك وأضناك، فقد حقق أملي وأراني ما كنت أطمح إليه. ورسم في قلبي صورتك جميلة خلابة، فلن أراك منذ اليوم (مهما تكن الخطوب) إلا باسم الثغر، منبسط الجبين، منطلق اللسان. وهل السعادة إلا لحظات قصار، تصيبنا ولم ننتظرها ولم نقدر لها حسابا! فما أسعد القلب الذي يحتفظ بهذه اللحظات حين تمر، ويتخذها ذخراً للأيام، وما يعرض فيها من الخطوب. قال عبد المطلب: إذن فأنت راضية يا سمراء أن رضاك