يتكلمون اللاتينية. ولم يكن (لوفن هوك) يقرأها بَلْهَ الكلام بها. وكان كل ما يعرف من كتب الأدب الانجيل الهولاندي. ولكن مع هذا، وبالرغم من كل هذا، ستجد أم جهله أعانه كثيراً؛ فجهالته قطعت ما بينه وبين العلم الفارغ الزائف الذي كان شائعاً يومئذ، فاضطر إلى الرجوع إلى عينه، والاعتماد عل فكره، والاعتداد بحكم نفسه، وكان في خلقه حرونة البغال فساعده ركوب رأسه على اقتحام الطريق الذي سلك
لا مراء في أن رؤية الشيء من خلال عدسة، ووجدانه أكبر مما ترى العين، أمر فيه متعة وفيه سرور وفيه غبطة. ولكن من أين للوفن هذه العدسات! يشتريها؟ هيهات ولو قطعوا رأسه. وكان كثير الشك كثير الاتهام، فلم يجد بداً من صنعها بنفسه. وفي العشرين سنة التي لم نسمع فيها عنه ذهب إلى صناع النظارات وتعلم مباديء نحت الزجاج، وخالط الكيميائيين والصيادلة وتدخل في أعمالهم ونفذ إلى أسرارهم، فعلم كيف يستخرجون المعادن من خاماتها، وأخذ عنهم بُجهد النفس صياغة الذهب والفضة. وكان لا يعجبه العَجَب، فلم تُرضه العدسات ينحتها كأحسن ما ينحت نحاتو هولانده، فكان يعيد عليها الكرة بعد الكرة ساعات طويلة، ثم يركبها بعد ذلك في مستطيلات صغيرة من النحاس أو الفضة أو الذهب مما استخرجه هو بنفسه من الخام على جمرات الفحم المتقدة بين الروائح الغريبة والابخرة الخانقة. إن الباحث اليوم يدفع الخمسة عشر جنيهاً أو نحوها فيقبض بديلاً منها مكرسكوباً جميلاً بارقاً يدير لوالبه وينظر فيه فيكشف ما يكشف وهو لا يعرف كيف صُنع مكرسكوبه ولا كيف تركب. أما (لوفن هوك) فلم يكن يأخذ بشيء أخذ تسليم
بالطبع كان جيرانه يظنون به بعض الخيل، ولكن (لوفن) لم يأبه لهم، ومضى في عمله تتنفط يده وتحترق اصابعه ويشتغل ساعات الليالي الطويلة الهادئة وحيداً منكباً على أعمال صعبة دقيقة، ناسياً أهله أصدقاءه. وكان جيرانه الاخيار الطيبون يتسارقون الضحك منه بينما كان يشق لنفسه طريقاً عسيراً إلى صناعة عدسات صغيرة جداً قطرها دون ثُمن البوصة، غايةٍ في التماثل، غايةٍ في الكمال، بلغ منها أن أرته دقائق الأشياء كبيرةً ضخمة في صفاء وروعة. نعم إنه لم يكن كبير الثقافة، ولكنه كان من بين رجال هولانده الرجلَ الفذ الذي استطاع أن يخلق هذه العدسات. وكان إذا ذكر جيرانه يقول: لقد حق علينا أن نغفر لهم فهم قوم لا يعلمون