هكذا كانت الدنيا منذ ثلاثة قرون، يوم ولُد (لوفن هوك). كانت دينا مليئة بالخرافات، مغلولة بالأباطيل. دنيا أحرقت سؤفيتوس لانه تجرأ على تشريح جثة ميت ليختبرها ليعلم ما فيها. دنيا قضت على جاليليو بالسجن المؤبد لأنه تجاسر فحاول أن يثبت أن الأرض تدور حول الشمس. دنيا كانت على وشك أن تستيقظ لليقين ولكنها لم تكد، وأن تفك عن عنقها غل الجهل ولكنها لم تكن فعلت، وأن تحمر خجلاً من عار ما هي فيه فلم يبد في وجهها إلا مسحة تُخال من حُمرة. دنيا كان العلم فيها يدرج دَرَجان الطفل على ساقين ضعيفين مرتعدتين في بطء وخشية، وما كان العلم إلا استطاع الحق بالنظر الدقيق والتفكير الواضح البريء
ولد (لوفن هوك) عام ١٦٣٢ بين طاحونات الهواء الزرقاء والطرقات الواطئة والقنوات العالية بمدينة (دلفت بهولاندة. وكانت أسرته ذات حُرمة كبيرة. أقول كبيرة لأنهم كانوا سلالين وكانوا خمارين، والخمارون قوم محترمون مشرفون في هولاندة. ومات أبوه فأرسلته أمه إلى المدرسة ليصير موظفاً في الحكومة، ولكنه ترك المدرسة في سن السادسة عشرة، وتتلمذ لقماش بمدينة أمستردام فكان حانوت هذا القماش جامعته. تصور رجلاً علمياً من عصرنا هذا يجري اختباراته وتجاربيه بين أثواب الشيت وقرع أجراس الصيارفة، وبين الحديث إلى ربات المنازل تتوالى عليه في دورة لا تنقطع وكلهن حريصات يساومن للقرش والمليم! تلك كانت جامعة (لوفن هوك) ستة أعوام
وفي سن الحادية والعشرين ترك لحانوت ورجع إلى (دلفت) وهناك تزوج وفتح حانوتاً لبيع المنسوجات واختص به. ولا ندري عنه في السنوات العشرين التي تلت ذلك إلا أنه تزوج مرة اخرى وكان له بضعة أطفال مات أكثرهم. ولكن ما لا شك فيه أنه تعين حاجباً في دار بلدية المدينة في هذه الاثناء، وأنه شُغف بنحت من الزجاج الرائق عدسات صغيرة فيتقن النحت ثم ينظر إلى الأشياء من خلالها يجدها أكبر كثيراً مما تراها العين
إن المعروف عنه بين سن العشرين وسن الأربعين قليل، ولكن لا ريب في أنه عاش بين الناس كبعض الجهال فلم يُعرف عنه علم ولم تظهر له بينهم قيمة، واللغة الوحيدة التي عرفها هي اللغة الهولاندية، وهي لغة خافية خاملة كان ينعتها أهل العصر بأنها لغة السماكين وأصحاب الدكاكاين والصعاليك من الفعلة. أما المثقفون في تلك الأيام فكانوا