يتخيل أو يتبين الحقائق، ويغفلون عن روعة النفس وتأثرها بما تشعر من وراء هذا الاكتشاف، فاشمع نفح الطيب يروي لك جمال النكتة في الشعر عن شعراء الأندلس:
أعوذ بالله من أناس ... تشيخوا قبل أن يشيخوا
احدودبوا وانحنوا رياء ... فاحذرهم إنهم فخرخ
مناط تأثر الشاعر في هذين البيتين ما يشعر به من تدليس المرائين، ولعلهم المنافقون الذين يسرون الكفر ويظهرون الايمان، وجمال النكتة منهما في البيت الاخير، وهي فيهما قاصرة على الفن، وليست من الفن مجرد حمل الفخاخ على ظهورهم بجامع التقويس كما تشبه الناقة الهزيلة بالقوس، والهلال بالعرجون القديم، إذ ليس غرض الشاعر بيان أن ظهورهم محنية كالأقواس أو الفخاخ، ولكن غرضه أن يلفت العامة إلى أن وراء تقويس ظهورهم المكذوب ما وراء تقويس الفخوخ من رياء وتضليل وغشٍ وخداع، فلم يتقوسوا لكبرٍ أو عجز، بل ليخدعوا الرأي فيطمئن إليهم في إصلاح نفسه، ويجعلهم محل الثقة من دينه ودنياه فيمدوا إذ ذاك أيديهم إلى ذات يده ويمعنون فيها بزاً واختلاساً
ولكن ما يجب أن ينتبه له هنا هو أن القنص علة للغش والخدعة، وهما علة للتقويس، وأما في الفخاخ فالقنص له معلولان لا يترتب أحدهما على الآخر: هما التقويس والخدعة. فالتقويس يلحق الآلة التي تقبض على الطريدة، والخداع يكون بواسطة طعم يناط بالآلة الموارد خلفه
فالخداع في المشبه على التقويس، والقنص يترتب على الخداع، فالرجل المرائي يتقوس ليخدع، ويخدع ليقنص، وأما الفخ فيتقوس ليقبض وبناط به الطعم ليخدع، هكذا يتبين الفرق جلياً بين المشبه والمشبه به
وجميل في النكتة قول الآخر من شعراء نفح الطيب أيضاً:
يا بدر يا شمس يا نهار ... أنت لها جنة ونار
تجنبُ الثم فيك اثمُ ... وخشية العار فيك عار
النكتة تتحقق هنا في ادعاء الشاعر لمحبوبه جمالاً يبلغ بالهائم فيه حداً يرى معه الحسن في المجتمع قبيحاً والقبيح حسناً، وادعائه أن من رأى حبيبه حمله جماله على أن لم يعذره في اقتراف الاثم معه فحسب، بل جعل تجنبه للاثم فيه من الاثم، وخشية العار فيه من العار؛