النزه. . . دعوه يلعب في الشمس ويرتع في الهواء الطلق. . . فهذه الكلمات تعلن للأهل بلطف أنه لم يبق من حاجة إلى الدواء بعد أن وقع اليأس من الشفاء، فهاهم الآن يرسلونه ليلعب في الهواء الطلق كل يوم، وليأخذ قسطه من مرح الطبيعة، ولينال حظه من حرارة الشمس الساطعة ليمتع نفسه بما قضي عليه أن يحرم منه قريباً)
جلست الوم كعادتي عند النهر أفكر، فكانت أفكاري كلها متجهة نحو هذين الطفلين! لقد كانا محور تخيلاتي وتأملاتي في هذا اليوم، فلا أرى سواهما، ولا يمر ببالي شيء غيرهما
أصبحت أرى الطفلين كل يوم، وكنت إذا وقع نظري عليهما علق بهما حتى لا يكاد يتحول عنهما، وكأني كنت أشعر أن صوتاً بهما حتى لا يكاد يتحول عنهما، وكأني كنت أشعر أن صوتاً داخلياً يهتف بس قائلاً:
- تأمل هذين الوجهين المحاطين بالشعر الأشقر إحاطة الهالة بالقمر، إنك سترى تلك الطفولة الغضة قد جمدت ويبست فيهما كما جفت الزهرة قبل أن تتفتح عنها أكمامها، وسترى على شفاههما الذابلة ذبول الزهرة لفحتها السائم، رعشة تشبه رعشة المحتضر
أما تلك العيون الحزينة فقد كانت في ذلك الربيع الضاحك مدفناً لجميع الآلام، أسفاً على ربيع حياة عصفت به يد الخريف وتودع كل آمالها في الحياة مع شدة حرصها عليها، تودعها بشعر حزين باكٍ تنظمه نظراتهما الحائرة، وترجمة أنفاسها الفاترة. المرض بعد، والفتى الذي برح به الداء، يمشيان جنباً إلى جنب، وقد أخذ كل منهما بيد الآخر، مشية الحزين الذاهل
رأيت الفتاة في أحد الأيام وهي مكبة باهتمام على أخيها تزرر معطفه خوفاً عليه من البرد، فقلت في نفسي ما أشقاكما أيها الطفلان. . .
كان الفتى في آخر مرة رأيته فيها مصبوغ الوجنتين بحمرة هي حمرة السقم لا حمرة العافية، وفي تل المرة سمعت أخته تقول له بصوت حزين:
- لقد أسرفت في الركض يا أخي فأخذك العرق وها هو السعال يعاودك ويأخذ بخناقك
ويجيبها الفتى وهو يبتسم لها ابتسامة عذبة ويحاول أن يحبس سعاله:
- نعم لقد أسرفت في الركض كثيراً، ولن أعود
خرجت إلى النزهة بعد أيام وأخذت أجمع ما راق عيني وأحبته نفسي من الأزهار الجميلة