فالأدب الإفرنجي إذاً مدين في خصبه إلى الحظ، فالحظ يخدمه في دول تحميه وتدفعه في طريق الحياة، ويخدمه في شعب يقبل عليه ويشتريه. وأي أدب لا يثمر ما دام الاهتمام به متوالياً بلا انقطاع؟ فالصخر إذا عكف عليه من يفتته أنبت أروع الأزهار، وأينعت فيه أطيب الثمار!
وهذا هو الأدب الفرنسي كم انقضت عليه أزمان فما جاد بالسمين؟. . . لقد ظل عصوراً طويلة ضائعاً، غامض اللون والوجه، لا يستقر على حال ولا يقوم له كيان، مع أن فرنسا عرفت أياماً نضرة في عهد (كلوفيس) و (شالمان).
وانتقلت إليها روائع اللغة اللاتيتية، وعكف الرهبان في أديارها على تدريس الأدب اللاتيني لنشر تعاليم الدين المسيحي. إلا أن هذه الهمة الشماء لم تنهض بالأدب الفرنسي المضطرب اللهجة واللسان. فظل ضائعاً نغلاً لا أب له ولا أم، لا جامعة تربطه ولا قوة يعول عليها فتوحده وتجمع شتيته. حتى جاءه (ماليرب) فاجتهد في تكوينه وفي بناء قواعده. ولاح في الظلماء بصيص نور فخطر للكردينال (ريشيلو) أن يحي هذا الوليد. فأنشأ المجمع العلمي الفرنسي، وقامت بإنشاء هذا المجمع الدعامة الكبرى في بنيان أدب فرنسا
ومن هو (ريشيليو)؟. . . .
هذا كاهن عالي الرتبة ساد فرنسا ثمانية عشر عاماً
فهو أدهى من قام في البلد الفرنسي من رجال السياسة على إطلاقهم، ولا نستثنى حتى (تاليران) وزير نابليون الأول. فان فرنسا مدينة بعظمتها لهذا الكاهن الذي لم يكن في سياسته كاهناً. فتلاعب بتلك الدولة الكبرى كما يتلاعب بسبحته. فهدم وبنى، وأمات وأحيا وظلم. وشعر بنفور الشعب منه. وأدرك أنه بحاجة إلى ما يرفع من شأنه، فالتفت إلى الأدباء يصلح من شأنهم ويعطف عليهم. فما جهل أن للأدباء ألسنة طوالاً يقتلون بها من يشاؤون، ويقوضون أي ركن راموا تقويضه. ما جهل أن الأدب خالد في بطن التاريخ خلود الممالك، وأن الأدباء أخدان الملوك في البقاء على ممر الأعوام والدهور. وقد يموت الملك ويطوي، ويمحي اسمه حتى من صدور الكتب ولا يموت الأديب