ما جهل كل هذا ريشليو صاحب اليد الحديدية، وقاتل الملكة (ماري دي ميدسيس) هماً ونكداً، والمسيطر على الملك لويس الثالث عشر. فدعا إلى إنشاء ذلك المجمع الأدبي، ولا يزال المجمع حتى اليوم ينتسب إليه أربعون أديباً ومؤلفاً وعظيماً، وإنه لساهر على اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي سهر الأم على بنيها، فلا يغفل عنهما لحظة لئلا يسلطا طريقاً غير قويم
وبعد (ريشليو) أطل (الملك الشمس) لويس الرابع عشر، فزاد في توطيد دعائم الأدب الفرنسي. وكان حيال أدباء بني قومه أشبه بملوك العرب حيال أدباء العرب، فجاء بكبار الأدباء يفسح لهم صدر بلاطه، ويخصص لهم المرتبات، ويجزل لهم العطاء، ويدعوهم إلى التأليف. وهو نفسه كان يحاول نظم الشعر، فلمعت في عهده أدمغة أدبية لا تزال حتى اليوم تفيض إشراقاً.
وستظل في هذا الفيضان حتى الأبد. فان ما جاء به أدباء فرنسا في القرن السابع عشر يكاد يكون خير ما أنتجته قرائحهم من سام رفيع وطيد نفيس، فجاروا الأدب اليوناني والأدب اللاتيني في أروع ما عندهما من آثار. واقتبسوا منهما الفن التمثيلي والأمثال الحكيمة في روايات وجيزة على ألسنة الحيوانات. واقتبسوا منهما الفلسفة. ولم يكن للأدب الفرنسي أي ميزة يبهر بها العيون، فأمسى في القرن السابع عشر منارة تهتدي بها أوربا جمعاء، بل يهتدي بها المعالم
فالروح الأدبية استيقظت من ذلك الحين في فرنسا، ومشت في طريق آمنة مرفوعة الرأس متوجة بأكاليل الغار، ولما تزل مسرعة في سيرها الوثاب. أجل، لقد كان لها ومضات في القرن السادس عشر، إلا أنها أشبه بانتفاض الجنين في بطن أمه، يختلج اختلاجاً يدل على أن الحياة أخذت تدب فيه
وليس من حق الفرنسيين أن يزعموا أن أدبهم يرتقي إلى أبعد من القرن السادس عشر. فان يكن لهم بعض فلتات أدبية ترجع إلى ما قبل ذلك العهد فانها لا تستحق العناية. ثم هي موضوعة في لغات متباينة خاضعة للهجات العامية المتداولة يومذاك في شمال فرنسا وفي صميمها، وليس هذا الأدب بالأدب المكتوبة له الحياة. فهو من النفايات التي تطرح جانباً ويضطر التاريخ الأدبي إلى إثباتها لإشارة إلى روح الأدب في عصرها ليس غير