تلك النظرة. . . إلى تلك القطرة. . . . بدأت تاريخاً مجيداً. كان (لوفن هوك) بحاثاً مخبولاً غريب الأطوار، وإلا فما الذي حدا به إلى أن ينظر من بين ألوف الأشياء إلى قطرة ماء نزلت من السماء؟! وما الذي عساه أن يرى فيها! كانت مريم ابنته في التاسعة عشرة من عمرها. وكانت كثيرة الحَدَب على أبيها المأفون ترعاه وتدفع عنه. والويل للجار السافل الغبي الذي يغريه سوء طالعه بالهزء من والدها على مسمع منها وكانت مريم ترقب خُطى أبيها؛ ففي هذا اليوم المعهود رأته يتناول أنبوبة من الزجاج أحماها في لهب حتى صارت حمراء، ثم مطها حتى كانت كالشعرة، ثم كسرها قطعاً صغيرة. ونظرت إليه وهو واسع العينين ذاهل اللب فإذا به يخرج إلى الجنينة فُيكب على إناء كان وضعه هناك ليقيس به مقدار المطر العاطل، ثم يغمس تلك الشعرات الزجاجية فيه، ثم يعود بها إلى مكتبه فيضعها تحت عدسته. ليت شعري ما وراء هذا الأب المأفون العزيز الآن. إنه ينظر في العدسة ويُجهد النظر حتى حًوِلتْ عينه. إنه يتمتم بكلمات تتردد في حلقه ولا تخرج إلى شفتيه. ها هو ذا قد زاد اضطرابه وعلا بغتة صوته، وأخذ يصيح لابنته في اهتياج ظاهر:(تعالي. تعالي أسرعي! أسرعي! أرى أحياء في الماء، أحياء صغيرة. إنها تسبح. إنها تدور وتلعب. إنها أصغر ألف مرة من الحيوانات التي تراها أعيننا المجردة. أنظريها وانظري ماذا اكتشفت)
هذا يوم (لوفن) جاء أخيراً، وهو يوم في الأيام مُعلَم مشهور. ساح الاسكندر ما ساح حتى جاء إلى الهند فاكتشف فيها ما لم تره عين إغريقي من قبله: فيلةً عظاماً ضخاماً تملأ العينَ والقلب، هذه الفيلة كانت عند الهندوس كالخيل عند الإغريق، أشياء مألوفة لا تبعث فيهم دَهَشاً ولا تثير عجباً. وضرب قيصر في الأرض ما ضرب حتى طلع به المطاف على الجزر البريطانية فراعه ما وجد فيها من أقوام بادين مستوحشين، ولكن هؤلاء البريطانيين كانوا فيما بينهم معروفين مألوفين كألفة قيصر جنوده. أما (لوفن هوك) التاجر الصغير فقد سبق العالم فأطل على عالم عجيب لا يبلغه البصر، عالم من مخلوقاتٍ صغيرة عاشت وعاودت العيش، ونمت وعاودت النماء، وتقاتلت وعاودت التقاتل، وماتت وعاودت الموت، وكل ذلك تحت عين الإنسان وسمعه، ومنذ بدأ الزمان، والإنسان لا يسمعها، والإنسان لا يبصرها. مخلوقاتٍ على صغرها أهلكت شعوباً وأذلت أمماً من رجال يكبرونها