وقد أسلم كتابه إلى المطابع وولي وجهه شطر إيطاليا موطن الفن، دون أن يرتقب ما يتركه كتابه من تأثير، فقضي فيها زهاء عامين يحيا حياة بسيطة، هادئة. ويرود مواطن الآثار متأملا في تلك العظمة الغائرة في تلافيف التراب. وقد كانت له ميول غزيرة للفن؛ وكم متع النفس - في حداثته - بمباهج الحياة! حتى إذا آب إلى برلين افتتح شعبة خاصة في الجامعة، ولبث شوينهاور يرتقب عبثاً من يسمع له، أو يأخذ عنه، حتى يئس من نجاحه، وتبرم بمذهب (هيجل) الذي يحتل ذهن الجامعة، وهو - عنده - مذهب الجنون والمحال، فما أشد مقته لأتباع هذا المذهب، ولليهود ذوي الأثرة، والنساء اللواتي يخرجن الكون من قلق إلى قلق. عاد إلى إيطاليا ليتم دراسته الفنية، ثم أقام في (فرانكفورت) وبعد جهاد خمسة عشر عاماً مشت إليه الشهرة ذليلة بعد صدود، منقادة بعد جموح، ولقي حتفه عام ١٦٠، وهكذا قدر لشوبنهاور أن يصرع مذهبه الجديد مذهب (هيجل) الذي تقطعت أسبابه، وتفككت روابطه، وشغرت الأفكار من بعده وأصبحت تتقبل أي مذهب كان يبعثه مجدد!
يعتقد شوينهاور بأنه هو الوارث الحقيقي لتراث (كانت) وأن (فيخت وشيلنغ وهيجل ما هم إلا أطفال فاسدون)، يرى أن كانت نحا بالفلسفة منحى جديداً، وسار بها في منهاج واضح، أما أتباع كانت فقد ذهبوا بالفلسفة مذهباً وعراً لا مأمن فيه لسالكه، وأقحموها في بقاع هي فوق (المحسوس) تتعانق أجزاءها، وتتلاقى أشلاؤها في نقط مظلمة مبهمة. والآن قد آن للفلسفة أن تدرس حقائق الأشياء الموجودة. (وان الطريقة المثلى في تأمل الوجود، والوقوف على أطواره ما يصل بنا إلى بواطن الأشياء، وحقيقة أكناهها الخفية، ويطلعنا على سر ما يكمن وراء كل حادث، لا تسأل الكون من أين أتي؟ وإلى أين يمضي، ولماذا وجد؟ ولكنها في كل لحظة وفي كل خطرة تود أن تعرف ما هو؟) وهكذا تحول مجرى العلم النظري الذي كان يجري وراء الخيال، وعاد ينقل من التجارب ما سلم بها الاختبار، ويشرح لنا ناموس الوجود حسب وضعه
يقول شوبنهاور: العالم هو أين تمثيلي وتصويري، وأين الحقيقة التي تصورها احساساتي التي يحولها الفكر إلى معارف.
وشوبنهاور لا يتخطى بهذه الفكرة ما افترضه معلمه (كانت) من قبل. ولكن العالم عنده هو إرادة، هو ميول عمياء أو غريرة قاهرة عند الكائنات، وفاعلية حساسية عند الانسان،