ولكنها إرادة متمثلة في كل شيء، هي جهاد عنيف في سبيل الحياة، تسعى لبسط سلطتها وقوتها على ما هو خارج عنها، الإرادة هي الشيء القائم بنفسه الذي لا ينفذ إليه فناء. الحياة هي العمل
وقد يُخيل للبالغ هذه النقطة من فلسفة شوينهور أن صاحبها يريد أن يبشر بالفعالية المستمرة والجهاد المتواصل الذي لابد منه لحي، ولكن شوينهاور لا يبلغ بك هذه النقطة إلا ليحمل إلى نفسك فكرته المسمومة التي تجعل من الدنيا كهفاً مظلماً، ومعتركاً تتطاحن فيه الإرادات. يصرع بعضها بعضاَ: ألم يصرع أملاً، وأمل مغسول بالدمع يصارع أملً مخضباً بالدم
الحياة جهاد عنيف. والجهاد العنيف سبب باعث للألم والشقاء. والكائن كلما زاد سمواً ورقياً زاد تألمه وشقاؤه. وذو النظام المتسق أكثر شعوراً بالألم من ذي النظام الناقص المضطرب. أما الشجرة فلا تتألم، فهي غير حساسة. أما رجل العقل ورجل العبقرية فهما أكثر شقاء وألماً ممن خُلقوا محدودي المدارك، ضيقي الآفاق. والحياة - مهما تجردت - لنا منها حاجات نريد إدراكها، ونريد أن ندركها كاملة، والكمال ظل طارئ لا يثبت، وقد تجر الحاجات حاجات مثلها مما يجعل الحياة - حسب هذا المقياس - لا تنطوي إلا على شقاء، فلا ندرك كل ما نتمنى، ولا نعقد عن التمني:
وشوينهاور إزاء هذه الحالات الغامضة، وجد كماله وراحته في المذهب البوذي الذي يجرد عن النفس الألم لأنه يقصيه عن الاشتغال في الحياة، ويدعوه إلى الفناء المطلق في الوجود، والتأمل في آياته تأملاً ساكناً، خالياً من الرغبة والشعور
هذا هو شاطئ النجاة القائم التي أوت إليه سفينة شوبنهاور بعد أن طافت في أكناف المحيط أعواماً، وهو مذهب كأن، صاحبه قد استمده من تلك الساحبة السوداء التي غشيت ألمانيا في عقلها وشعرها وفلسفتها. ومن خيبة طويلة رافقته أكثر أيامه وقد وجد الناقدون القائلون بتأثير الوارثة أن شوبنهاور قد اقتبس من أمه الأيم نظراتها السوداء، وعن أبيه أخذ الإرادة. ومهما كان تأثير هذه الوارثة المتنقلة بعيداً في نفس شوينهاور، فهو تأثير ضعيف إزاء تلك الموجة التي اكتسحت القطر الألماني جميعاً بما فيه من أدب ومذاهب وشعر وفلسفة