للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وبرغم ما بذله شوينهاور في إعلاء شأن مذهبه، وإظهار خطره، فقد قسما عليه النقد ووجد في مذهبه خطراً يهدد أماني الأنسانية، ويقتل كل ما حملته معها منذ فجر الخليقة حتى الآن، وأرادوا من شوينهاور أن تهديه النتيجة التي بلغها في أول مراحله (الحياة هي جهاد عنيف) لا إلى مناصرة الألم القوي، وتثبيت جذروه السامة في قلوب البشرية، بل إلى تخفيف أثقاله الرازحة على الكواهل والغوارب. فيعمل بذلك على إنماء الحياة وتكثيرها، وجعل رسالته رسالة رضاً وابتسام، لا رسالة سخط وامتعاض

ولكن هب أن شوينهاور كان فاقداً لروح التفاؤل، فما هو سر انتشار مذهبه الأسود بين الناس، وقد علموا أن الحياة لا تغدو بمذهبه إلا متجهمة قاطبة. فهل كان شوينهاور معبراً عما يجول في صدور قومه ويخفق في قلوبهم، كما كان معبراً عما يختلج في صدره وفي قلبه؟ قد يكون احتمال الاثنتين معاً من أكبر العوامل التي جعلت من شوبنهاور نبياً للتشاؤم محترماً في قومه، وإن كان صاحب التشاؤم قريناً لا يقبل صحبته غراب

لقد كان شوينهاور وكمن تظلمه غمامة سوداء، كثيراً هزؤه، نسيج وحده في خلقه. جاءت فلسفته ابنة طبعه، يحاول أن يقنع بها نفسه، لا الناس، لأنه يشعر أن الناس واجد أكثرهم في الحياة نوراً وسعادة، ولكن نفسه لا تبصر من هذا النور شيئاً

على أن أسلوبه الفلسفي هو الذي أحياه، برغم أن اعتقاده - بالبوذية - لم يقم أمره كمذهب. لأن العقول لا تتقبله وإذا تقبلته فلن تفهمه. أما أسلوبه فهو حي يغري ويملأ النفس جلالاً.

فتفكيره فيه جد وصرامة، يغلب المنطق على أقواله حتى في الأشياء البعيدة، يدل استشهاده الكثير على سعة اطلاع، وقد بلغت منه قوة الملاحظة مبلغاً عظيماً، حتى لتأتي الفكرة منه مبنية على خطأ، وتأني أجزاؤها صحيحة سليمة، كأنها البشاعة مبطنة بالجمال؛ وهو فياض الخيال الذي يندمج مع الفكر دون ما نفور. ولعل أعظم ما جاء منه (فكرة الإرادة) التي بان تأثيرها في الأجيال التي عقبت جيل شوينهاور؛ فما زالت هذه الإرادة تتطور وتنمو حتى أوجدت لنفسها كياناً في العالم الفلسفي والعالم المادي، ولعل (نيتشه) هو أكبر مولود وضعته الإرادة الجبارة بين يدي الحياة.

(يتبع)

خليل هنداوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>