للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا الطفل الصغير كالخادم؛ في صورة يُكتب تحتها: (نُفًايَة عسكرية!)

ليس لهذا النظر الكثير حدوثه في مصر إلا تأويلٌ واحد: هو أن مكان الشخصيات فوق المعاني وان صغرت تلك وجلت هذه؛ ومن هنا يكذبُ الرجل ذو المنصب، فيرفع شخصه فوق الفضائل كلها؛ فيكبر عن أن يكذب، فيكون كذبه هو الصدق، فلا ينكر عليه كذبة أي صدقة. . . . .! ويخرج من ذلك أن يتقرر في الأمة أن كذب القوة صدق بالقوة!

وعلى هذه القاعدة يقاس غيرها من كل ما يخذل فيه الحق. ومتى كانت الشخصيات فوق المعاني السامية طفقت هذه المعاني تموجُ مَوجها محاولةً أن تعلو، مكرهة على أن تنزل؛ فلا تستقيم على جهةٍ ولا تنتظمُ على طريقة؛ وتقبل بالشيء على موضعه، ثم تكرُّ كرها فتدبرُ به إلى غير موضعه، فتضُّل كل طبقةٍ من الأمة بكبرائها، ولا تكون الأمة على هذه الحالة في كل طبقاتها إلا صغاراً فوقهم كبارهم؛ وتلك هي تهيئةُ الأمة للاستعباد متى ابتليت بالذي هو أكبر من كبارها؛ ومن تلك تنشأ في الأمة طبيعةُ النفاق يحتمي به الصغر من الكبر، وتنظم به ألفةُ الحياة بين الذلة والصولة!

وتخلف الجندي ذات يوم عن موعد الرواح من المدرسة، فخرج عصمت فلم يجده، فبدا له أن يتسكع في بعض طرق المدينة لينطلق فيه ابن آدم لا ابن المدير، وحن حنينه إلى المغامرة في الطبيعة، ولبست الطرق في خياله الصغير زينتها الشعرية بأطفال الأزقة يلعبون ويتهوشون ويتعابثون ويتشاحنون، وهم شتى وكأنهم أبناء بيتٍ واحد مست بكل من كل رحمٌ، إذ لا ينتسبون في اللهو إلا إلى الطفولة وحدها

وانساق عصمت وراء خياله، وهرب على وجهه من تلك الصورة التي يمشي فيها الجندي وراء ابن المدير، وتغلغل في الأزقة لا يبالي ما يعرفه وما لا يعرفه، إذ كان يسير في طرقٍ جديدة على عينه كأنما يحلم بها في مدينةٍ من مدن النوم

وانتهى إلى كبكبةٍ من الأطفال قد استجمعوا لشأنهم الصبياني، فانتبذ ناحية ووقف يصغي إليهم متهيباً أن يقدم، فاتصل بسمعه ونظره كالجبان، وتسمع فإذا خبيث منهم يعلم الآخر كيف يضرب إذا اعتدى أو أعتُدي عليه، فيقول له: اضرب أينما ضربت، من رأهس، من وجهه، من الحُلقوم، من مراق البطن؛ قال الآخر: وإذا مات؟ فقال الخبيث: وإذا مات فلا تقُل إني أنا علمتُك. . .!

<<  <  ج:
ص:  >  >>