وسمع طفلاً بقول لصاحبه: أما قلت لك إنه تعلم السرقة من رؤيته اللصوص في السيما؟ فأجابه صاحبه: وهل قال له أولئك اللصوص الذين في السيما كن لصاُ واعمل مثلنا؟
وقام منهم شيطان فقال: يا أولاد البلد، أنا المدير! تعالوا وقولوا لي (يا سعادة الباشا، إن أولادنا يريدون الذهاب إلى المدارس، ولكنا لا نستطيع أن ندفع لهم المصروفات. .)
فقال الأولاد في صوت واحد:(يا سعادة الباشا، إن أولادنا يريدون الذهاب إلى المدارس، ولكنا لا نستطيع أن ندفع لهم المصروفات) فرد عليهم (سعادته): اشتروا لأولادكم أحذية وطرابيش وثياباً نظيفة، وأنا أدفع لهم المصروفات
فنظر إليه خبيث منهم وقال: يا سعادة المدير، وأنت فلماذا لم يشتر لك أبوك حذاء. .؟
وقال طفل صغير: أنا ابنك يا سعادة المدير، فأرسلني إلى المدرسة وقت الظهر فقط. . . .!
وكان عصمت يسمع ونفسه تهتز وترف بإحساسها كالورقة الخضراء عليها طل الندى، وأخذ قلبه يتفتح في شعاع الكلام كالزهرة في الشمس؛ وسكر بما يكسر به الأطفال حين تقدم لهم الطبيعة مكان اللهو معداً مُهيأ كالحانة ليس فيها إلا أسباب السكر والنشوة، وتمام لذاتها أن الزمن فيها منسي، وأن العقل فيها مُهمل. . .
وأحسن ابن المدير أن هذه الطبيعة حين ينطلق فيها جماعة الأطفال على سجيتهم وسجيتها - إنما هي المدرسة التي لا جُدران لها، وهي تربيةُ الوجود للطفل تربية تتناوله من أدق أعصابه فتبدد قواه ثم تجمعها له أقوى ما كانت، وتفرغه منها ثم تملؤه بما هو أتم وأزيد. وبذلك تكسبه نمونشاطه، وتعلمه كيف ينبعث لتحقيق هذا النشاط، فتهديه إلى أن يبدع بنفسه ولا ينتظر من يبدع له، وتجعلُ خطاه دائماً وراء أشياء جديدة فتسدده من هذا كله إلى سر الإبداع والابتكار، وتلقيه العلم الأعظم في هذه الحياة، علم نضرة نفسه وسرورها ومرحها، وتطبعه على المزاج المتطلق المتهلهل المتفائل، وتتدفق به على دنياه كالفيضان في النهر، تفور الحياة فيه وتفور به، لا كأطفال المدارس الخامدين، تعرف للواحد منهم شكل الطفل وليس له وجوده ولا عالمه، فيكون المسكين في الحياة ولا يجدها، ثم تراه طفلاً صغيراً وقد جمعوا له همومَ رجل كامل!
ودبت روحً الأرض دبيبها في عصمت، وأوحت إلى قلبه بأسرارها، فأدرك من شعوره أن هؤلاء الأغمار الأغبياءَ من أولاد الفقراء والمساكين، هم السعداءُ بطفولتهم. وأنه هو