للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأمثاله هم الفقراءُ والمساكين في الطفولة، وأن ذلك الجندي الذي يمشي وراءه لتعظيمه إنما هو سجن، وأن الألعاب خير من العلوم، إذ كانت هي طفلية الطفل في وقتها، أما العلوم فرُجولةٌ مُلزقةٌ به قبل وقتها توقره وتحوله عن طباعه، فتقتل فيه الطفولة وتهدم أساسَ الرجولةَ، فينشأ بين ذلك لا إلى هذه ولا إلى هذه، ويكون في الأول طفلاً رجلاً، ثم يكون في الآخر رجلاً طفلاً.

وأحس مما رأى وسمع أن مدرسة الطفل يجب أن تكون هي بيته الواسعَ الذي لا يتحرجُ أن يصرخ فيه صراخه الطبيعي، ويتحرك حركته الطبيعة، ولا يكون فيه مدرسون ولا طلبة، ولا حاملو العُصي من الضباط؛ بل حق البيت الواسع أن تكون فيه الأبوة الواسعة، والأخوة التي تنفسح للمئات؛ فيمر الطفل المتعلم في نشأته من منزل إلى منزل إلى منزل، على تدريج في التوسع شيئاً فشيئاً، من البيت إلى المدرسة إلى العالم

وكان عصمت يحلم بهذه الأحلام الفلسفية، وطفولته تشب وتسترجل، ورخاوته تشتد وتتماسك؛ وكانت حركاتُ الأطفال كأنها تحركه من داخله، فهو منهم كالطفل في السيما حين يشهد المتلاكمين والمتصارعين، يَستطيرُه الفرحُ، ويتوثب فيه الطفل الطبيعي بمرحه وعنفوانه، وتتقلص عضلاته، ويتكشف جلده، وتجتمع قوته؛ حتى كأنه سيُظاهر أحدَ الخصمين ويلكم الآخر فيكوره ويصرعه، ويفض معركة الضرب الحديدي بضربته اللينة الحريرية. . .!

فما لبث صاحبنا الغريرُ الناعمُ أن تخشن، وما كذب أن اقتحم، وكأنما أقبل على روحه الشارعُ والأطفال ولهوهم وعبثهم، إقبال الجو على الطير الحبيس المعلق في مسمار، إذا انفرج عنه القفص، وإقبال الغابة على الوحش القنيص إذا وثب وثبة الحياة فطار بها وإقبال الفلاة على الظبي الأسير إذا ناوصَ فأفلتَ من الحبالة

وتقدم فادغم في الجماعة وقال لهم: أنا ابن المدير. فنظروا إليه جميعاً ثم نظر بعضهم إلى بعض، وسفرت أفكارهم الصغيرة بين أعينهم، وقال منهم قائل: إن حذاءه وثيابه وطربوشه كلها تقول أن أباه المدير

فقال آخر: ووجهه يقول إن أمه امرأة المدير!

فقال الثالث: ليست كأمك يا بعطيطي ولا كأم جُعْلُص!

<<  <  ج:
ص:  >  >>