وبعد وقوف السيرة ونزول الفتاة التي كانت تتكلم، حدثت مناقشةٌ لإقناع جارة السواق بتغيير مكانها ,. فأبت مؤكدة أنها هنا على ما يرام، وأنها تريد حراستهن إلى النهاية. واستأنفت السيارةُ السير والفتيات يضحكن من جارة السواق لأنها (كونسرفاتريس) وينصحن لها بأن تلبس العمامة للاندماج في هيئة كبار العلماء في الأزهر
كانت صاحبة الثوب الأزرق تسمع لغوهن ولا تعي معناه. إنها بعيدة عنهن وعن العالم بما فيه ومن فيه، بعيدة عن النيل الذي يجري تحتها، عن سحر الجزيرة المنتشر حواليها، عن جمال الغروب وقد تمازج فيه انهزام النور واقتحام الظلام. لقد حدث في ذلك الاجتماع شيء مدهش قلب الدنيا رأساً على عقب. وهو بعدُ شيء بسيط يكاد يكون عادياً، وكأنها تنتظره على غير معرفة منها
اتفق أن فتى كان على مقربةٍ منها في ذلك الصالون، فصنع لها مثل ما صنع لغيرها، ومثل ما يصنع كل رجل له ولو بعض الإلمام بآداب الاجتماع. كانت فتاةُ الدار تبذلُ جهدها مع معاونيها ومعاوناتها لإرضاء الضيوف وقد تعبت كثيراً في القيام بمهمتها. فسارع ذلك الفتى إلى مساعدتها فجر أمام صاحبة الثوب الأزرق طاولة صغيرة وضع عليها قدح الشاي وجال يقدم ما يصحب الشاي من قطع الحلوى الصغيرة الجافة. فتناولت صاحبةُ الثوب الأزرق قطعةً ورفعت ببصرها إليه في ابتسام، وقالت:(مرسي). وكان عليها أن ترد بنظرها في الحال إلى جارتها التي كانت تتحدث حديثاً طويلاً. ولكنها لم ترد نظرها ولم تخفضه. لأن نظره سار رسولاً إلى أعماق عينها، إلى أعماق جوانحها، إلى أعماق كيانها، فاهتدى هناك إلى شيء كان يلبه، ولم تدر هي ماهيته. وكان وجهه جاداً ونظره جاداً، شأن الرجل عندما ينبه إلى أمرٍ هام
فجمدت الابتسامة على شفتيها، وكأن السر الذي وجده فيها يسأل السر الذي بعث به نظره:(ماذا؟) فخيل إليها أن سره يجيب: (أردت أن أنبهك فقط. . . لأنك نبهتني وأنتِ لا تعلمين)
لحظة لا غير، لحظة لم ينتبه إليها أحدُ من المحيطين بها، ولكنها كانت طويلةً مليئة كالدهور. وتكررت تلك اللحظة عندما التفتت في الشارع فلمحته يشيعها، وشعرت بالسر مقبلاً من نظره البعيد، يتوغل في كيانها من جيد. وفي هذا المساء الجميل المتهادي في