ذاته موضوعاً للتجربة أيضاً. وأتعبه العمل وأجهده طول التحديق إلى تلك الحيوانات التي بأسنانه فطلب الراحة في التريض تحت الأشجار العالية، وقد أخذت بقدوم الخريف تتناثر عنها ورقاتها المريضة الصفراء فتقع من تحتها على سطوح الترع وهي في سكونها وملاستها كالمرايا الغيراء، ولكنه ما لبث أن لًقي في طريقه شيخاً هرماً، فحدثه فكان هذا إيذاناً بذهاب راحته وانتهاء رياضته. كتب (لوفن) إلى الجمعية الملكية عن هذا يقول: (وتحدثت إلى هذا الشيخ فألفيته عاش ما خلا من أيامه عيشة قصدٍ واستقامة، فالوسكي لم يذقه قط، والتبغ لم يمس فمه، والنبيذ ندر شربه إياه. ووقعت عيني على أسنانه مغطاة بالرواسب، فسألته متى نظفها آخر مرة، فأجاب إنه لم ينظفها مرة واحدة في حياته
فما قرع هذا الجواب سمع (وفن) حتى طار التعب عن عينيه. فقد وقع في نفسه أن فم هذا الرجل لابد أن يكون جنينة مليئة بالحيوانات من كل صنف بهيج وغير بهيج، وما لبث أن جر الشيخ القذر التقي إلى مكتبه. وبالطبع وجد الألوف من تلك الحيوانات الصغيرة في فمه، ولن كان همه أن يخبر الجمعية الملكية أنه وجد في فمه مخلوقاً جديداً ينساب في التواءاته كالأفعى بين شتى الحيوانات الأخرى، وأن الماء بأنبوبة الزجاج الشعرية كان يعج به تحت عدسته
ومن الغريب في (لوفن هوك) أنك مهما تصفحت كتبه، وهي مئات، فلن تجده يذكر مرة واحدة أن هذه الأحياء الصغيرة تضر بالإنسان. إنه رآها في ماء الشرب، ووقع عليها في فم الإنسان، ومضت الأعوام فتكشفت له نفس تلك الأحياء في أمعاء الضفدع وأمعاء الخيل وفي أمعائه هو، كان يجدها أسراباً أسراباً على حد قوله (كلما اعتراه إسهال). ومع هذا لم يقل إنها كانت سبباً في هذا الذي اعتراه. لقد كان محاذراً في أحكامه، ولم يكن له ذلك الخيال الذي اعتاد الناس أن يطيروا به إلى استنتاجات فطيرة غير ناضجة كالتي يثب إليها أهل هذا العصر الحاضر من دُراس المكروب. ولكم وَدِدْنا لو درس هؤلاء ما كتب (لوفن)، إذن لتعلموا من حذره الشيء الكثير. ففي الحق لقد وصف الواضعون في نصف القرن السالف آلافاً من المكروبات، ونسبوا إليها مئات من الأمراض، فكشف النقد في الكثرة الكبرى من تلك الحالات أن اجتماع المرض والمكروب في الجسم إنما كان ارتفاعاً عارضاً. كان (لوفن هوك) يخشى دائماً أن يشير إلى الشيء فالشيء ويقول هذا سبب هذا.