كان به إيمان فطري بتعقد الأمور واختلاط الأسباب التي تنتج الحياة وظواهرها، فكان دائماً محجاما لا يقدم على ربط سبب بظاهره
ومرت السنون وهو يشتغل بالبزازة في دكانه الصغير، أو يقوم بكنس دار البلدية (بدلفت). وزاد حذراً وزاد شراسة، وازدادت كذلك الساعات الطويلة التي كان يقضيها في التحديق في المئات من مكرسكوباته، وزاد اكتشافه لكل عجيب غريب. وذات يوم نظر إلى سمكة صغيرة في أنبوبة من الزجاج وقد علا ذيلها فلمح فيه لأول مرة أوعية الدم الشعرية التي تصل ما بين الأوردة والشرايين فاستكمل بذلك الدورة الدموية التي اكتشفها (هارفي) من قبله
وكان (لوفن) لا يمتنع عن امتحان الشيء لقداسة أو عاطفة، أو خشية أن يُسيء إلى الأدب والحرمات، فاكتشف الخلية المنوية للذكر من الإنسان - اكتشاف فيه تورط وفيه احراج، وفيه جمود وبرود في سبيل العلم تقشعر منه النفوس، ولكن (لوفن) كان رجلاً بسيطاً ساذجاً
ودارت الأيام فشاع ذكره في أوربا، وجاءه بطرس الأكبر قيصر الروس يقدم له احترامه، وسعت إليه ملكة الانجليز في بلدته لترى الأعاجيب من خلال عدساته. وأبطل للجمعية الملكية كثيراً من الخزعبلات السائدة، وكان أشيع أعضائها ذكراً ما خلا (اسحق نيوتن) و (روبرت بويل). ولم يغير كل ذلك شيئاً من نفسه؛ ذلك أنه كان من أول الأمر كبير التقدير لها كثير الإعجاب بها. وكانت كبرياؤه لا حد لها، ولا يضارعها إلا اتضاعه كلما فكر في هذا الكون وخفاياه، في السر الهائل المجهول الذي يَلفه ويلف سائر الناس معه. كان يعبد الله، وكان عباداً للحقيقة. قال:(في اعتزامي إلا أحتفظ بآرائي عناداً وتعصباً، فأنا أنبذها إلى ما يعرضه على غيري من الآراء، مادام هذا الغير لا يطلب من عرضها إلا إظهار الحقيقة لعيني، وأنا أعتنق هذا المعروض الجديد بمقدار ما أستطيع تحقيقه فيه من صواب. كذلك في اعتزامي أن استخدم ما حباني به الله من مواهب قليلة للحيلولة بين الناس وبين خرافات وثنية جاءتهم من الزمن القديم. وفي اعتزامي أن أنهض إلى الحق وأن أثبت عليه)
وكان صحيح الجسم صحة خارقة، ففي الثمانين كان يرفع بيده المكرسكوب، وهي ترتعد، إلى زواره لينظروا بها إلى الحيوانات الصغيرة، أو إلى صنوف الأجنة من المحار. وكان