مُغرماً بالشراب في الأمساء، وأي هولاندي ليس به هذا؟ وكأنما كان المرض لا يمسه إلا في الإصباح التي تلي تلك الإمساء، وما كان مرضاُ بل ضيقاً في النفس واعتلالاً في المزاح. وكان يبغض الأطباء فلا يستنصح منهم أحداً. وأنى لهم معرفة بأدواء الجسد وعلمهم بتركيبه عشر معشار علمه؟ ومن أجل هذا كانت له نظريته الخاصة في تعليل سوء مزاجه - وأية نظرية تلك! كان يعلم أن بالدم كرات صغيرة مستديرة هو الذي اكتشفها وارتآها أول راء. وهو الذي اكتشف في ذيل السمكة تلك الشعريات الصغيرة التي تصل ما بين الأوردة والشران. فالليالي التي كان بعمرها بالكأس والطاس كانت على زعمه تؤثر في دمه فتجعله ثخيناً، فإذا هو جاء يمر بالشعريات تعذر عليه ذلك. فمن هذا كان اختلال مزاجه في الصباح. وإذن فدواء هذه الثخانة تخفيفها. وإليك ما كتب إلى الجمعية الملكية:
(فأنا إذا أكلت ذات مساء فأثقلت شربت في الصباح عدداً كبيراً من فناجيل القهوة، وهي على أسخن ما أحتمل حتى أتصبب عرقاً، فإذا لم يشفني ذلك فكل ما بدكان الصيدلاني لا يشفي. وهذا دوائي من أعوام كلما حُممْت)
وهداه شرب القهوة إلى حقيقة جديدة عن حيواناته الصغيرة. يا له من رجل! ما كان يفعل شيئاً حتى يهديه هذا الشيء إلى جديد في الطبيعة. فقد كان يعيش بسمعه وبصره وحسه وفكره في دُنى تلك الحيوانات التي كان يسترق منها النظرات من خلال تلك العدسات. لقد كان كالطفل إذا يستمع لحكاية البط والغراب وهو مستغرق عما هو حوله، لا ترى منه إلا شفتين منفرجتين وعينين واسعتين من شدة الدهشة والإعجاب. وكان كالطفل كذلك في إعادة ما قرأ من أقاصيص الطبيعة المرة بعد المرة، حتى لتجد على صفحاتها من إبهامه بصمات، وفي أركانها من فعله ثنيات تهديه إذا هو استراح فعاد ليبدأ من حيث انتهى. من ذلك أنه بعد سنوات من اكتشافه المكروب في فمه جلس ذات صباح إلى شراب القهوة يستشفي به، فبينا هو في عرقه الصبيب خطر له أن يعود فينظر إلى مكروب أسنانه من جديد. . ما هذا! أين ذهبت حيوانات أسناني فإني لا أرى واحدة تتحرك بالحياة! أو كأني أرى الألوف منها ولكنها أجساد هامةد، وإلا واحدة أو اثنتين تدبان على ضعف كأنما مسهما المرض! ثم صاح يستنجد بالأحبار والقديسين ألا يجيئه في تلك الساعة لورد من لوردات الجمعية الملكية يطلب إليه رؤية تلك المركوبات في فمه فلا يجدها فيكذبه فيما كتب عنها