وإن مصر لتتمتع منذ قرون بعيدة بأدب فيه من خصائص (المصري) وملازمات حياته ما يكفل لها أن تنتظم الشرق في وحدة أدبية تامة متى كان لها أن تعنى بذلك عناية خاصة، وأن تعمل في سبيله، فتقيم له المؤتمرات وتدعو إليها، وتنظم له المجامع وتبعث له البعثات، وتكون له في كل بلد (رابطة)، وتنشئ من أجله في كل قطر سوقاً، لتضمن لها في كل شعب حقوقاً. ولكن مصر لم تعمل لذلك حتى في ألزم شعب لها وألصقها به. وذلك هو السودان. . .
كلما فكرت في تعليل ذلك لم أجد ما يشفع لمصر في إفلات ما كان وما لا يزال يتهيأ لها أن تحقق فيه أن السودان قطعة من مصر يصح فيها ما يصح في مصر، ويجري على هذه ما يجري على تلك. ولا ينبغي أن نخادع أنفسنا في تقرير الحقائق، فان كل ما حصل لم يكن إلا نتيجة طبيعية لجهل مصر بالسودان وإغفالها بدأة بدء توثيق العلائق الأدبية والروحية بينهما، حتى لقد استغل سادتنا الإنجليز جهل مصر الفاضح بنا فوطدوا مصالحهم في السودان وانتزعوا منه كل ما يدل على مصر، إلا علماً ما تكاد تحس له بوجود. ولو قد كان لمصر أن تصرف عنايتها بعد عام ١٩٢٤ إلى العلائق الأدبية وتنميتها لما اتسعت الهوة الفاصلة بين القطرين إلى هذا المدى، ولما قامت الموانع حتى دون أبسط شيء لا يغير من مجرى الحوادث بقليل. ولكن مصر لم يكن يهمها بعد ذلك أن تعود للتفكير فيما يجعل الوشيجة بينهما قوية على الحوادث، جديدة مع الأيام حتى ضرب الإنجليز ضربتهم القاضية، ووقفوا دون المصري والسوداني حتى عن معرفة ما ليس بد أن يعرفه كل عن أخيه، لأنهم - وقد استغلوا هذا الجهل - كانوا يعلمون أن ما ضربوا عليه من العلائق كان شيئاً لابد منه، فلا ينفيه الإنكار ولا يطمس عليه النسيان أو التغافل. ولهذا فهم أشد خشية أن يطلع أحد، وخاصة إن كان سودانياً على الحقيقة التي عبثوا بها. على وجود الصلات التي دفنت حيةً بعد أن جهدوا في خنقها، ولكنها كانت أطول نفساً وأكثر حيوية أن تموت، على روابط صنعها الله وأحكم في توثيقها، ولا حل لما عقد؛ وكانوا موفقين فيما أرادوا من تفرقة، حتى لقد حاولوا بما يبثون ويذيعون من ضروب الإرهاب وألوان النكال أن يجعلوا اسم مصر بعد عام ٢٤ شيئاً لا تسوغ القوانين النطق به، وكلما شددوا في النكير وأمعنوا