قال: وهذه لعنةٌ في لفظة رحمة. لا، إلا أن تترحم علي أنا إبليس الرجيم!
قلت: فيُغني الله عن علمك؟ لقد ألهمتنيها روحُ النبي صلى الله عليه وسلم. إن النبوة كانت هي بأعمالها وصفاتها تفسير الألفاظ على أسمى الوجوه وأكملها، فكان روحُ النبي صلى عليه وسلم لتلك الأرواح كالأم لأبنائها. وقد رأوه لا يغضب لنفسه ولا لحظ لنفسه، وذلك لا يستقيم إلا بالقصد في أمر النفس، وجعلٍ ناحية الإسراف فيها إسرافاً في العمل لسعادة الناس. وكلما ارتد الإنسان لنفسه وحظوظها ارتد إليك - أيها اللعين - وأقبل على شقاء نفسه، وكلما عمل لسعادة غيره ابتعد عنك - أيها الرجيم - وأقبل على سعادة نفسه، وتركُ الغضب وحظوظِ النفس هو الصبر؛ وصبرُ الأنبياء والصديقين ليس صبراً على شيء بعينه في الحياة، بل هو الصبرُ على حوادث العمر كله؛ كصبر المسافر؛ إن كان عزيمةً مدةَ الطريق كلها، وإلا كان فساداً في القوة ووقع به الخذلان
فهذا الصبر المُعْتزٍمُ المصمم، الذي يُوطن به الرجلُ نفسه أن يكون رجلاً إلى الآخر - هو تعبُ الدنيا، ولكنه هو رَوْحُ الجنة مع الإنسان في الدنيا. والمؤمنُ الصابر رجل مَقْفَلٌ عليه بأقفال الملائكة التي لا يقتحمها الشيطانُ ولا تفتحها مصائب الدنيا. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن المؤمنَ يُنْضِي شيطانه كما يًنضي أحدُكم بعيره في سفره.) كأنه يقول: لو لم يصبر المسافر دائماً معتزماً مدة سفرهِ كلها لما أنضى بعيره، ولو لم يصبر المؤمنُ دائباً معتزماً مدة حياته كلها لما أنضى شيطانه
فصاح الشيطان: أوه، أوه! ولكن قل لي يا أبا الحسن، ما صَبْرُ رجلٍ مؤمنٍ قوي الايمان، قد استطاع بقوة إيمانه أن يُفيقَ من سًكْر الغِني، فتخلص من نزوات الشياطين الذهبيةِ الصغيرة التي تسمونها الدنانير؛ وقد أردتُه على أن يكذب، فرأى الإيمان أن يَصدق، وجًهَدْتُ به أن يغضب، فرأى الحكمة أن يهدا؛ وحاولتُ منه أن يطمع، فرأى الراحةَ أن يرضي؛ وسَولتُ له أن يحسد، فرأى الفضيلة إلا يبالي. وأخذ لنفسه من كل شيء في الحياة بما يثق أنه الإيمان والصبرُ والهدوء والرضى والقناعة؛ وأحاط نفسه من هذه الأخلاق بالسعادة القلبية واجتزأ بها، وقصر نظره على الحقيقة، ووجد الجمالَ في نفسه الطيبة الصافية، وأجرى ما يؤلمه وما يسره مجرىً واحداً، ونظر إلى العمر كله كأنه يومٌ واحد