علم أبي - عليه رحمة الله - بالبيع فطلب إليَّ أن أزور القصر واشترى أثاثاً ينقصنا لغرفة المائدة، وبقي بالقاهرة يومين ثم سافر إلى الريف لبعض شأنه
وحين عودته سألني هل نفذت رغبته؟ وهل اقتنيت شيئاً؟ لقد كنت أهابه على رعايته لي، وما أظنني خالفت له مدى حياته رأياً، فلما سئلت لم أعدل بالحق شيئاً، قلت: لقد بر علي يا أبي - وقد أعجبت بالقصر فتى، وقدرت أثر صاحبته وأثره في عالم الخير والعلم لهذه البلاد شاباً - كبر علي أن تشترك قدماي في امتهانه فلئن لم يأبه منا ريحه ذوو الشأن، ولئن تدفقت الجموع تظفر بما يقتني، فإني سعيد بأن أقتني تذكاره، وأن أفي له بشيء من احترام الذكرى، ثم والأثاث موفور في مخازنه، وجيده اليوم معتدل الثمن
سر أبي بنظرتي، وقال على الفور:(إنك أشبه بجدك، فقد ذهب مرة مع فريق من صحبه لزيارة الخديوي إسماعيل بالآستانة، وكانوا في جملة من كبراء البلاد يطالبون بتدخل الباب العالي لجلاء الاحتلال - والدولة في ذاك الوقت صاحبة السيادة - فلما جلسوا قدمت إليهم السجاير، وطاف الخدم يشعلونها للضيوف الكرام، أبى جدك أن يشعل سيجارته، وكان الخديوي إسماعيل قد كف بصره
فلما سئل من بعض رفاقه بعد الانصراف من الزيارة، قال: (إني نقدت ظلمه، ومدحت إصلاحه - وهو خديوي - ولم أدخن أمامه بصيراً، وإني لأكره أن أدخن - وهو مكفوف البصر - احتراماً لعبرة مآله، وصوناً لذكرى عزته الأولى.
قلت: الحمد لله، لقد أفدت وفاء وعلماً أين منه اقتناء حطام سريع البلى مهما دام، وقمت بما يرضي ضميري ولو في أضيق مجال
واليوم أغلقت أبواب القصر؛ فلا حاجب ولا قاصد، واليوم تمر بقاعة (يورث) الأمريكي على قرب منه فترى رتل السيارات يزحم الطريق، جاءت بأصحابها يستمعون إلى ما يلقي في العلم والفن والأدب، بينا القصر العظيم، المقر السابق للسابقة بين المحسنين وأركان العلم يكاد يطمس سنا طلائه نسيج العناكب لا يرتفع فيه صوت بحديث ولا علم ولا فن
أليس (قصر الوالدة) أولى مكان بنور العلم والأدب والفن؟ إنه أولاها، وإنه أرحب الأمكنة للفضل منذ نشأته