بلى إني تمنيت أن يكون لي فيه مسكن، وأن أصبح من قاطنيه، فلما استقر بنا المقام بشارع (الحوياتي) حمدت الله وقلت هذه خطوة في القرب منه، وقد أوشكت على الخروج من سلك الطلبة
أدركنا من الحياة أكثر، وفهمنا بتقدم السن وتحول الأيام ما لم نكن ندرك من قبل، فإذا بي أبدأ اليوم متنزهاً في البكور بقصر الدوبارة، وأختم المساء بجولة في ربوعه، إذا أحسست القذى من قصر (العميد) لقيت الفرجة من (قصر الوالدة) كما يذهب عنك معرض الصنائع بشارع سليمان باشا، غصة التسلط الأجنبي في ميداني الصناعة والتجارة
وفي سنة ١٩٣٢ أراد الله أن أظفر بشيء من الأماني، فسكنا داراً بالحي ذاته، وبلغ من عرفاني لجميل الله، وفيض السرور على قلبي أن قيدت في جريدتي الخاصة هذا الانتقال بما يستحقه
فلما أن كان يوم جمعة، ومررت بالقصر في طريقي إلى مسجد (الشيخ بركات) هالني إعلانات تلصق على الجدار الأنيقة، يضعها صبيان دون إكتراث، فأخذت ووقفت أقرأ، الله أكبر، هذه إعلانات عن بيع أثاث القصر!!!
لك الله يا دار! كنت مهبط رحمة، فرفعت بك (الوالدة) علم البر، وكنت منزل الفضل فدعوت للعلم، وقمت بإنشاء معاهدة وتمويلها، كنت آية الفن من الطلاء الخارجي والباب الكبير الجميل إلى الأثاث الداخلي الفاخر، وها أنت اليوم يعبث بجدرك صبية وقد كان يهاب المرور بها كبار! ويباع الأثاث، فتستباح من الشارين الدار. ولم ذلك؟ وفيم السخرية والتفريط فيك ووارثوك في نعمة وبسطة من العيش؟! وكيف هنت وأنت مصدر العزة لبيوتات طاهرة، وكنت الغوث والابقاء لدور وقصور
وكذلك أصبح يوم الجمعة عندي - وهو يوم الجمع والرحمة - يوم العظة والاعتبار، يوم كشف لي فيه عن (مبرة محمد علي) سنة ١٩١١، ثم رأيت فيه ختام الآية، وكيف عبثت أطماع الدنيا بالتراث المجيد
ومنذ حل الأجل، وبدأ المكلف بالبيع من الخبراء ينفذ إعلانه أقصرت عن الطريق وتخليت عن عادتي، وكرهت أن أرى كعبة العافين ومنار الفضل مزدحمة المسالك بالمتفرجين