للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أساتذة العلم، إلى ممثلي المسارح، إلى العازفين بالأشعار على القيثار

كان في خلقه نقيضَ (لوفن هوك) أبعد النقض عاش (لوفن) عزوفاُ جلداً صبوراً، ونحت العدَس وحدق في الأشياء زُهاء عشرين عاماً قبل أن يسمع به أحد، أو يُحس وجوده العلماء. أما (أسبالنزاني) ففي سن الخامسة والعشرين ترجم عن القدماء من الشعراء، وانتقد الترجمة الإيطالية لهوميروس، وكانت لها في قلوب الناس منزلة مستقرة وتقدير مكين، ودرس الرياضيات مع ابنة خاله (لورا باسي) الأستاذة الشهيرة بجامعة ريجيو فبرع فيها، وعندئذ أخذ يكشط سطح المياه بالحجارة، لا اللهو واللعب كما كان يفعل صبياً، بل للجد والدراسة؛ وكتب بحثاً في الحجارة، وكشطها لسطح الماء، وترسم قسيساً في الكنيسة الكاثوليكية، وأخذ يرتزق بما يقيم من القداديس

قلنا إنه يحتقر في الخفاء كل سلطة، ومع ذلك نجده تملق هذه السلطات نفسها وكسب عطفها، وعاش هادئاً في أكنافها يعمل في مأمن من كل تهويش وإزعاج، وترسم قساً حامياً للدين، مدافعاً دفاع الأعمى عن حوزة اليقين؛ فإذا به يطلق لنفسه العنان إطلاقاً يسومها على التشكك في كل شيء، وعلى رفض التسليم بأي شيء، إلا وجود الله، لا إله الكنيسة التي صورته، ولكن إله عظيم فخم يهيمن على تلك الخلائق أجمعين. وقبل أن يبلغ الثلاثين من عمره تعين أستاذاً بجامعة (ريجيو) فأنصت لدروسه الطلبة في حماس ظاهر وإعجاب ثائر. وهنا في تلك الجامعة بدأ تجاربيه على تلك الحيوانات الصغيرة الضئيلة العجيبة التي أغراها (لوفن هوك) بالصبر الطويل والحيلة الواسعة على البروز من ذلك الخضّم الشاسع المظلم الذي احتجبت فيه منذ الخليقة عن عين الإنسان، والتي أوشكت من بعد وفاته أن تنسل راجعة إلى ظلمة ذلك المجهول بالترك والإهمال والنسيان

لقد كان من الجائز المقدور أن تُنسى تلك الخلائق الصغيرة، وإن عطف عليها القدر، فقد كان من الجائز الميسر أن تحظى بين الناس بنصيب من الذكر بقدر ما تحظى به الأعاجيب يتلاهى الناس بها ويتفاكهون عليها، ولكن نقاشاً قام بين أرباب الفكر بسببها ضمن لها الحياة كاملة، لأنه كان نقاشاً عنيفاً خاصم فيه الأصدقاء الأصدقاء، وود فيه العلماء الأساتذة أن يفلقوا جماجم الأحبار القساوسة. أما موضوع الخصام فهو ذاك:

أيمكن من العدم أن تُخلق الأحياء، أم لا بد لها من آباء؟ أخلق الله الخلائق في ستة أيام، ثم

<<  <  ج:
ص:  >  >>