الخارجي زمان ولا مكان، إنما خلقهما العقل ليتخذهما وسائل للادراك، وسبيلا لصب المعاني في المحسات.
شرحنا فيما سبق كيف تنتقل الاحساسات المنبعثة من الأشياء الخارجية إلى إدراك، ونريد الآن أن نوضح الخطوة الثانية التي يجتازها العقل في أداء وظيفته، عند الانتقال من هذه المدركات إلى مرتبة المعقولات أي تصور العلاقات الكائنة بين أجزاء الوجود بعضها ببعض، وبعبارة أخرى تلك الخطوة التي يخطوها العقل من مرحلة التجارب الجزئية إلى العلوم الكلية. فكما أن للعقل قوة يتمكن بها من تنظيم البواعث المختلفة في قالب المكان والزمان، فيدرك بذلك معنى الأشياء، كذلك له قوة أخرى، تجيء بعد هذه، وهي التي تنظم تلك المدركات في قوانين عامة، كقانون السببية، وقانون الجاذبية، وما إلى ذلك من النواميس التي تبوب على أساسها معلومات الإنسان، وهذه العملية هي كنه العقل وطبيعته. فالعقل عبارة عن عملية تنظيم التجارب وتبويبها، وهو في هذا التبويب والترتيب إيجابي فعال، وليس كما توهم لوك وهيوم قطعة من الشمع اللين التي تشكلها التجارب المختلفة وإلا فهل تستطيع أو تتصور الوحدة الفكرية التي تشتمل على فلسفة (أرسطو)، والتي تكونت ولا ريب من جزئيات أتته عن طريق التجربة والحواس، هل تستطيع أن تتصور أن تلك الجزئيات قد نظمت نفسها بطريقة آلية حتى بدت متماسكة في فلسفة متحدة، دون أن يتدخل العقل في ذلك التنظيم؟
تخيل أن بطاقات دار الكتب قد انتثرت في غرفها واختلطت ألفها بيائها، فهل تصدق أن هذه البطاقات تستطيع أن تجمع نفسها وترتب صفوفها؛ وتسلك طريقها إلى قمطراتها في نظامها الأبجدي؟!
هل يمكن أن يتم ذلك دون أن يتدخل الإنسان ويتناولها بالترتيب؟
كذلك حال العقل مع المدركات، فهي في الكون شتيت متضارب، وهي تصل إلى الذهن في هذه الفوضى: ألوان متباينة، وأصوات مختلفة، وأذواق عدة، وأشكال متنوعة، فيأخذ العقل في ترتيبها وتبويبها حتى ينتهي بها الأمر إلى هذه العلوم المنظمة المنسقة، وبديهي أن هذا التنسيق لم ينبعث إلينا من الأشياء الخارجية نفسها، وإذن فقد أخطأ لوك كل الخطأ حين زعم أن العقل سلبي، تنقش فيه التجارب بطريقة آلية، فإذا لم يكن الأمر كذلك فهل يستطيع