لوك أن يبين لنا كيف ان التجارب الواحدة تؤثر في مجموعة من الرجال، فتخرج منهم هذا الغبي وذاك الفيلسوف؟
كلا! لا ندحة عن التسليم بإيجابية العقل وقوته في تكوين المدركات من الاحساسات أولا، ثم في تكوين المعقولات من المدركات ثانيا.
وإن صح هذا التحليل، فيكون العالم كما نعرفه من تكوين عقولنا وصنعها، فنحن لا نعلم عن الأشياء الخارجية إلا مظاهرها التي تنتقل الينا، وليس في مقدورنا أن نتغلغل في بواطنها، وقد تكون هذه الصورة الذهنية التي كونتها عقولنا عن العالم الخارجي بعيدة جدا عن الحقيقة في ذاتها، فنحن لا نعلم عن القمر مثلا إلا ما انبعث إلينا منه من احساسات زائداً ما عملته عقولنا في تلك الاحساسات، فتكونت لدينا من هذا المزيج صورة عقلية عن القمر، أما أن هذه الصورة العقلية تطابق الواقع أو لا تطابقه، فلا يستطيع البشر أن يجيب!
وهكذا أثبت (كانت) وجود المادة، إلا أنه أنكر أن تكون فكرتنا عنها على مثال الحقيقة الواقعة.
ثم يعود (كانت) بعد ذلك فيرفض ما زعمه لوك من أن العقل يولد كالصفحة البيضاء، ويؤكد في يقين انه إنما يرث شعوراً لا يأتيه عن طريق التجربة والحواس ولا بد لكل إنسان أن يسلم بوجوده، هو ذلك الشعور الذي يدلنا على أن هذا خير وذاك شر، هو ذلك الشعور الذي لا يفتأ يؤنبك إذا نبوت عن جادة الخير ويطمئن ما دمت سالكها، هو ذلك الشعور الذي تحس من أعماقك انك لو اتبعت ما يمليه عليك، وحذا حذوك البشر أجمعون، لكان الخير كل الخير. ذلك الشعور الذي يقف لك بالمرصاد والذي يولد معك. هو الضمير. ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر هذا الصوت الواضح الجلي الذي يضيق للشر ويطمئن للخير. فأنت قد تكذب. وقد تنهب حقوق غيرك. ولكن لا يسعك إلا الاعتراف ولو أمام نفسك إن هذا خطأ ولو خيرت لما رضيت أن يسود الكذب والسلب بين الناس. وكل إنسان على الإطلاق يحمل بين جنبيه هذا الوازع الذي لا تأخذه عن أعمالك سنة ولا نوم، والذي يملي على صاحبه في غير لبس ولا غموض ما يجوز عمله وما لا يجوز.
وهذا الخير الذي يمليه الضمير إنما يقصده لذاته على الرغم من انه قد يتضارب مع صالح الفرد تضاربا صريحا. فالمثل الأعلى الذي يصبو إليه هو أداء الواجب دون النظر إلى