فقد يتحطم جسمه ولا يموت! أو أن يغرق نفسه في النيل، فقد يراه أحمق فيدركه وينقذه، أو قد تعلق جثته بشيء فتظل راسبة ولا يهتدي إليها أحد! ولم ير أنه يطيق أن يسدد إلى رأسه مسدساً، أو إلى قلبه، ولا أن يغمد في صدره سكيناً أو يبقر به بطنه، كلا! هذه الميتات جميعا قبيحة، وفي صورها هوان وحماقة؛ إنما الميتة الحسنة أن يستلقي على سريره، ويضع إلى جانبه طشتا على كرسي، ثم يقطع شريانا فيلح عليه النزف حتى يموت، في سكون وبلا ألم
واستغرب لما انتهى إلى هذا الرأي، أن يرى نفسه منشرح الصدر، وأنه لم يعد يشعر حتى بتلك الآلام التي أغرته بالتماس الموت وحرضته على نشدانه! فهز رأسه متعجباً وقال: إذا كانت هذه هي البداية فلا شك أن الخاتمة أحسن. وتمنى لو تيسر له أن يرى نفسه مسجى في أكفانه والناس حوله يبكون ويندبون، ويثنون عليه بالذي (كان) أهله! وتصور نفسه محمولاً على الأعناق وخلفه حشد عظيم من الأصدقاء والكبراء، وكبر الأمر في وهمه حتى لخيل إليه أنه الآن راقد في النعش، فتحرك حركة من يريد أن يطل على مشيعيه! ثم أفاق من هذا الحلم وابتسم! ولم تكن هذه ابتسامة السرور، وإنما كانت ابتسامة الأسف على أنه سيحرم لذة هذا المنظر
ودق الجرس فجاءت الخادمة، وكانت فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، ولم تكن جميلة ولكنها لم تكن دميمة، وكان يحنو عليها لأنها يتيمة لا أب لها ولا أم، ولا أهل فيما يعرف، فلما أقبلت عليه رق لها قلبه من العطف، وقال لها:
(اسمعي! خذي هذه الرسائل وضعيها في صندوق البريد. فاهمة؟ وخذي هذا لك.)
ونهض وهو يناولها ورقة بجنيه، فدهشت المسكينة، فما لها عهد بمثل هذا الجود، وما وهبها أحد أكثر من قرش وقالت:(لي أنا؟)
فوضع راحته على كتفها وقال:(نعم لك أنت. ولم لا؟ إنك فتاة طيبة، وأنا راض عنك)
فقالت المسكينة:(ولكن ماذا تقول ستي؟ إنها إذا رأته معي ستظنني سرقته)
فقال:(كلا. لا تخافي. اطمئني!)
وأدناها منه وقبلها على خد، ثم أدار وجهها ليقبل خدها الآخر، فلمحت الفتاة أوسط أبنائه، وخشيت أن يثرثر لأمه بما رأى، فارتدت عن سيدها محتجة وقالت بصوت عال: