يغلب عليه الإنسان المجرد؛ وهو كلما تجرد ونزع عنه هذه الأقماط بدا أدنى إلى حقيقة السمو والكمال العاري كأنما كان يرتفع فنه معه متناسباً مع ارتفاع نفسه. وهذا هو المثل الأعلى الذي يطلب النعيمي إلى كل فنان يسمو إليه بعقله وجسده، وفنه؛ لا أن يقسم نفسه أقساماً، يضع كل قسم منه حيث يريد
(ولا يكفي الإنسان أن يبصر النور ليكون مستنيراً بل عليه أن يجعل ذلك النور هاديه الأوحد في حياته، وإن في ذلك وحده سراً لانعتاق الأيدي من جحيم المتناقضات، أما السبيل إلى ذلك ففي نبذ كل ما يحجب عنا النور من شهوات أرضية، ونزعات زمنية وشعور بالفردية التي لا تأتلف وروح الكلية الشاملة) وطبقاً لهذا الاعتقاد يبين النعيمي جانباً من حياة جبران - لا كل جوانبه - التي حالت دونه ودون الانعتاق، أو النكران المؤدي إلى الانعتاق.
وهكذا تطلع في هذا القسم على حياة مستقلة بذاتها عن الإنسانية، ومتصلة بذاتها مع الإنسانية؛ عارية كاسية، وإنما هي الحياة كلها بلحمها ودمها وروحها الذي لا يدرك
- ٢ -
جبران الثائر وجبران الهادئ
لا يقف الناقد على درسه على جبران الفنان وجبران الإنسان، وإنما هو يعالج - من ناحية ثانية - المؤثرات التي أثرت في جبران، والعوامل المقدرة وغير المقدرة، والمتصلة - كما يقول الناقد - بمكوك الحائك الأكبر وغير المتصلة. فهو يولد مع جبران ويدرج معه من سياحة إلى سياحة، ومن فشل إلى رجاء ومن رجاء إلى فشل. طوراً ينطق جبران بما نطق، وتارة ينطق عن جبران بما لم ينطق. وفي هذه المنطقة يلتقي النعيمي الناقد بجبران الفنان المجرد، لا النعيمي الحامل المثل الأعلى لجبران الضائع وراء نوازعه الأرضية. ولا يمكننا أن نقف على قيمة جبران الأدبية إلا إذا تعمقنا في أحناء حياته. فجبران - في كتاباته - ذو وجوه متعددة، منها وجه المحب المنهزم، وجه المتمرد الثائر، وجه الهادئ الساكن، ووجه المتصوف السامي، وصاحب هذه الوجوه رجل واحد هو جبران. والنعيمي يستعرض هذه الوجوه وجهاً وجهاً دارساً عوالمها محللاً ألوانها