تلك القمة التي دعاها الناقد قمة (المصطفى) حيث أشرف جبران على الوجود، ونظر إليه بخياله الخالص من تأثير (نيتشه) وغيره، ووقف على معنى (الازدواج) فيه. ولكن جبران الإنسان لم يكن برغم سمو خياله - عاليا سامياً كما تصوره لنا ريشته وبراعته، فهو نسر نشيط كبلته قيود الأرض وشهوات المادة. لم يغنه الفن شيئاً، بل زاد عذابه عذاباً، لأنه كان يكشف لعينيه قباب ذلك الوجود الذهبي ويمنع قدميه الملوثتين من الدخول. . جبران الإنسان تغلي في صدره شهوات ابن المادة، وهو أناني ونصير حب يود أن يكون فيه محبوبه عبداً؛ وهو طالب شهرة لم يستطع فنه أن يحرره من شهرة الناس الذين يكرههم: لا يخرج من - صومعته إلا جبران الفنان، أما جبران الإنسان فهو راسٍ على صدره لا يفر منه إلا إليه. . .
هذا الاختلاف بين شخصين مندمجين في شخص واحد هو موضوع الكتاب
يتساهل النعيمي مع جبران الفنان وحق له أن يتساهل أمام فنه المرن ونزعته الشخصية مهما مازج فنه من عوامل غريبة عن فنه، أما جبران الإنسان فلم يرحم ضعفه ولم يستره بستار الرحمة، لأنه يرى أن رحمته تقوض معتقده الأدبي وتهدم نظرته الفلسفية، وإنما يعتقد أن العبقري الحقيقي لا يجعل من نفسه شخصين مختلفين، ويرى أن الفن الصحيح هو ما نقى النفس من أدرانها وأسوائها، فهل نقى جبرانالفنان جبران الإنسان؟
عمل جبران الفنان على تطهير جبران الإنسان، ورفعه من الهوة إلى القمة. ولكن قدمي جبران الإنسان كانتا من قصب، لا يكاد صاحبهما ينهض عليهما ويمشي قليلاً حتى تتحطما ويلبث مكانه. . . أليس في فرار ميشلين ابنة التراب! من وجه جبران الفنان ابن السماء: أكبر خزي لجبران؟ أليس في تألم الفتاة التي جاءت لتحيي (صاحب النبي) اعتقاداً منها أنه سيكون أسمى من النبي الذي خلقه أكبر هزيمة لجبران الفنان؟ وهكذا ظل جبران في نزاع مع نفسه حتى قضى ولم يقض لبانته
قد يكون في هذا التصريح بعض ما يجرح، ولكن الحقيقة. . . الحقيقة الإنسانية لا تعرف المراعاة، ولو كان جبران فناناً عادياً لما قاسه النعيمي بهذا المقياس الدقيق الذي لا ينطبق إلا على العباقرة المختارين والنوابغ الموهوبين.
ألم يكن (فيخت) يغلب فيه الإنسان الأخلاقي على الإنسان الفيلسوف؟ والإنسان الأخلاقي