للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يتمثل فيها لسلفهم القريب، كما أدركوا هم أن له مهمات أوسع أفقاً وأبعد مدى من تلك التي كان يدور فيها في ذلك العهد، حتى لقد أصبح يتقلب في جلى أسباب الحياة، بل لقد تجاوز أو كاد يتجاوز أفق الكماليات البحث إلى موطن الضرورات في الحياة - إذا كان المتأدبون قيد أصبحوا يحلون الأدب هذا الموضع، ويتمثلونه على هذه الصورة، فذلك لأنهم طالعوا أدب الغرب ورأوا ما يتصرف فيه من مختلف الفنون، وما يتجرد له من جسام المطالب

لقد أصبح الأدب وسيلة من وسائل تنعيم النفس وتلذيذها بما يجلو عليها من صور الجمال، وبما يرهف من الحس حتى يتفطن ألوان المعاني إلى كل دقيق وإلى كل بديع، كذلك لقد تبسط الأدب واسترسلت آثاره وإلى كثير من الأسباب العامة، على ما تقدمت الإشارة إليه، فعظم بذلك أمره، وجل في عيش الحضارة خطبه، وكذلك أضحى للبارعين من أهله في الغرب من الشأن ما لا يكاد يوصل شان

ولقد زعمت لك أن الذي بعث تقدير أبناء العربية للأدب هذا المبعث ما جلى عليهم من أدب الغرب وما طالعوا من بعيد آثاره في شتى الأسباب، فراح كثيرون منهم يتأثرونه، ويتصرفون بالبيان في مثل ما يتصرف فيه من مختلف الفنون. على أن كثيرين من هؤلاء الكثيرين قد انقطع جهدهم دون هذه الغاية فلم يظفروا من الأمر بجليل. ولاشك أن ذلك يرجع إلى أنهم، في غالب الأحيان، إنما ينقلون إلى العربية ما يتهيأ لهم نقله من آداب الغرب على الصورة التي يستوي فيها لأهله، لا يحاولون، أو لعلهم يعجزون إذا هم حاولوا، أن يطبعوه على ما يألفه الخيال الشرقي، ويستريح إليه الذوق العربي، وتسلس له بلاغات العرب!

ولقد يكون هذا من أثر الافتتان بأدب الغرب، والتجرد في محاكاته وتقليده من جهة، وقلة المحصول من فقه العربية ورقة الزاد من ألوان بلاغاتها من جهة أخرى

وبعد، فما نحسب أن هناك من ينكر على الأدب العربي جليل خطره في عهد الجاهلية وفي قيام الدولة العربية في الشرق والغرب، وأنه كان، في الجملة، يؤدي من مطالب الحياة ما يؤديه الأدب الغربي اليوم، وأقول (في الجملة) لأن الأدب قد تشعبت في هذا العصر فنونه، وتطاولت آثاره إلى كثير لم يلتفت إليه في الزمان القديم، ولعله لو ظلت دولة العرب قائمة، وظلت حضاراتهم في اطرادها، ما تقاصر اليوم عن شأو الأدب الغربي، بل لعله كان يسبقه

<<  <  ج:
ص:  >  >>