الروح العلمية الحق، ذلك أنه قام يخاصم نظريته، ليرى أيستطيع أن يقهر فكرته، أن يقهر تلك النظرية العزيزة عليه، أن يقهر تلك الفكرة الحبيبة إليه. فرسم خطة الهجوم. وابتدع في أمانة وذكاء تجارب هي محك ما يقول، فأما له وإما عليه. هذا هو العلم، هذه هي روح العلماء التي وهبها الله قليلاً من الرجال أحبوا الحق حباً غلب على شهوات الأنفس وأماني القلوب. وأخذ اسبلنزاني يتمشى في غرفة عمله المظلمة وروحة وجيئة وكفاه خلف ظهره وهو يتفكر:((. . . . ولكن مهلاً! أليس من الجائز أن نيدم خمن تخمينه وقعت في الصميم من الحقيقة وهو لا يدري؟! أليس من الجائز أن في هذه البذور قوة نباتية حقاً أعدمتها النار الشديدة؟!)
ثم قام فأتى بشيء من البذور، ثم قلاها في مقلاة كما يحمص اللبن، أعني حبه، حتى أرمدت واسودت، ثم وضعها في القوارير وصب عليها الماء، ثم هدر كالبعير يقول:(لو صح أن في هذه البذور قوة نباتية كما يزعمون إذن فقد أعدمها التحميص إعداماً)
وبعد أيام رجع إلى قارورته وما بها من الأحسية المطبوخة من البذور المحروقة، وأخذ ينظر إليها بعدسته فوجدها جميعاً مليئة بتلك الحيوانات الصغيرة يزحم بعضها بعضاً في مراحها ومغداها، تنعم بالحياة وتبتهج بالعيش في مرق الحب المحروق نفس الحياة الناعمة والعيش البهيج الذي كانت تجده في حساء الحب غير المحروق. وعلت وجهه ابتسامة ساخرة، كأنما كان ينظر في هذه الساعة إلى نيدم وإلى بيفون ويتصور ما قد نالهما من جراء ذلك من الحرج والضيق
حاول أن يقهر نفسه ويقهر نظريته، فإذا النتيجة تطلع بقهر نيدم رب التقوى، وبانحدار بيفون رب الظرافة. قالا إن النار تقتل القوة التي ابتدعاها فلا تتكون تلك الخلائق، وها هي ذي البذور تحرق حتى تتفحم وهي لا تزال ترفد تلك الأحياء بالغذاء الطيب المريء - (إذن فتلك القوة خرافة). وبهذا النداء صاح اسبلنزاني في أوربا يسمع دانيها وقاصيها فأخذت تنصت إليه
وأراد أن يستجم من عناء المخلوقات الضئيلة وما يتصل بها من أبحاث مجهدة، فحول إلى المعدة الإنسانية وأخذ يدرس الهضم كيف يحصل فيها، وأجرى في ذلك تجارب على نفسه كانت مؤذية قاسية. ولم يكفه فطلع إلى ذروة بيته، إلى تلك الحجرة الحارة المظلمة التي