للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في هذه البيئة التي يدب النشاط في جنباتها فيبتعث الملكات الهامدة، بدأ صبري يقرأ الشعر ويحبه، وأخذ ينعم النظر فيه ويحاول أن يقلده، حتى استقامت له وهو في السادسة عشرة بضعة قصائد في مدح الخديوي وتهنئته نشرتها له مجلة (روضة المدارس المصرية) التي أنشأها جماعة من صفوة الكتاب البارزين إذ ذاك. وكانت هذه الأشعار مجرد تقليد واضح في أغراضها ومعانيها وأساليبها لمن سبقه من شعراء عصره كالبارودي وعبد الله فكري، وإن ظهرت علينا حيناً مسحة رقيقة من روحه وشخصيته.

ولكن هذه البيئة الأدبية النشيطة لم يقتصر أثرها على توجيه صبري إلى الأدب وإذكاء ميله إلى الشعر، بل حببت إليه قراءة الشعر العربي القديم من ناحية، وحثته على قراءة الأدب الفرنسي منذ أرسل إلى فرنسا ليدرس الحقوق في جامعة إكس من ناحية أخرى. فقرأ الشعر العربي وتذوقه وأحب منه بوجه خاص شعر البحتري، ذلك أن صبري، كما وصفه الدكتور هيكل (ابن بلد) والبحتري كما قال حافظ إبراهيم (يأخذ قارئ شعره بالحضن) وقرأ الأدب الفرنسي وصادف فيه جمالاً يرضي عاطفته؛ وسيولة تروي شعوره. وبهذا تأثر صبري ببعض مميزات الشعر الفرنسي حيناً، وببعض مميزاتهما معاً حيناً. ولكن ما مدى هذا التأثير في أطواره الادبية، وما هي مظاهره في نتاجه الشعري؟ هذا سؤال يتناول ناحية خطيرة في دراسة الشاعر، وأنا لا أملك الآن ما يؤهلني لبحثها في دقة وتحقيق. ولكني أراني ملزماً بأن أعرض لها ولو في هذه الصورة التي أعرف أنها ليست دقيقة كل الدقة، وليست شاملة كل الشمول.

حين نقرأ هذه الأشعار القليلة التي خلفها صبري نرى أنفسنا أمام طائفتين متمايزتين من الشعر، تشتركان في صفاء الديباجة ورواء الأسلوب بوجه عام، وتختلفان في الشعور الذي صدرتا عنه، وفي العاطفة التي أوحت بهما، وفي المعاني التي تدوران عليها. وقد يضعف هذا الاختلاف حيناً وقد يشتد حينا آخر اشتداداَ يحملنا على أن نزعم أننا لا نقرأ شاعراً واحداً وإنما نقرأ شاعرين مختلفين. وليس في هذا ما يدهشنا، فصبري قد عاش ما يقارب سبعين عاماً، مرت عليه أثنائها عهود الشباب والرجولة والكهولة، حاملة أراءها وأفكارها، وخواطرها وخلجاتها، وآلامها ولذاتها، وتنقلت حياته أثناءها بين هذه الآراء المتضاربة التي يمتلئ بها العقل تبعاً لما يتغذى به من ألوان الثقافة المختلفة، وبين هذه الاحساسات

<<  <  ج:
ص:  >  >>