للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المتباينة التي يجيش بها القلب تبعاً لما يعرض له من مناسبات وملابسات.

فأما الطائفة الأولى من شعره فهي التي أنشأها بين العشرين والأربعين وأكثرها قصائد في مدح أو تهنئة إسماعيل وتوفيق وعباس، وفي هذه الأشعار نرى أثر الشعر العربي ظاهراً واضحاً، ونرى أثر البحتري وحده، على وجه الدقة، عميقاً بارزا، إلى حد يبيح لك أن تشرك شعريهما في مميزات واحدة. خذ مثلا قصيدته في تهنئة الخديوي بحلول شهر رمضان ومطلعها:

بعلاك يختال الزمان تبختراً ... وبقدرك الأسمى يتيه تكبراً

وقارنها بكثير من مدائح البحتري تجد أن صبري قد تأثر فيها بالبحتري تأثراً هو أشد من تقليد شاعر لشاعر، وهو أقرب إلى حلول روح شاعر في جسم شاعر آخر. ولكن، وعلى رغم هذا كله، فان هذا الأثر تناول الديباجة وحدها فأكسبها جزالة وسهولة في مفرداتها وتراكيبها، من غير أن يمتد إلى المعاني فينتج منها شيئا جديداً قيما، وذلك لأن البحتري، وهو الوشيجة التي تصل صبري بالأدب العربي، قل أن نظفر في شعره بكثير من المعاني المبتكرة، وقل أن نحب فيه غير متانة الأسلوب وسلاسته. تأثر في هذا الطور الأدبي، بين العشرين والأربعين بالشعر العربي وحده، فأين كان الشعر الفرنسي؟ أليس من الشذوذ أن نرى صبري قد ذهب إلى فرنسا قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وبدأ إذ ذاك يقرأ الآداب الفرنسية ويتذوقها ويشدوها ثم لا نكاد نظفر في شعره أثناء هذا العهد بأثر قوي لهذا الشعر الفرنسي بل ولا لأي مظهر من مظاهر الحياة الأوربية؟ ولكن يظهر أن صبري قد أوتي، إلى جانب حواسه المرهفة، ذاكرة قوية مكنته من أن يختزن فيها ما يعرض له حتى يتمثله في تؤدة وأناة وحتى ينتجه مكتمل النمو مستوفي النضوج.

ونحن لا نفترض هذه الموهبة ولا نتكلف التماسها، وإنما يحملنا على الاطمئنان إليها أننا نجد فيها تعليلا لهذا الاضطراب الذي يغشي أطوار حياته الأدبية. فقد قضى صبري شبابه وشعره يكاد يقتصر على المدح وما إلى المدح مما تنفر منه نفس الشباب، ولا تكاد تبين فيه إثارة من هذه العواطف التي يحفل بها الصدر في ربيع الحياة، بينما تفتحت شاعريته الجائشة وأخذ يتغنى بأناشيد الحب والهوى أثناء الكهولة التي تنطفئ فيها عواطف الشباب الفياضة. ذلك لأن ذاكرته القوية قد استطاعت أن تحتفظ بهذه الاحساسات الفتية التي

<<  <  ج:
ص:  >  >>