اختلفت عليها أثناء شبيبته، حتى تفجرت بعد ذلك شعراً ثميراً لا تشوبه فجاجة الحس ولا غضاضة العاطفة.
ولهذا ظهر أثر الشعر الفرنسي في هذه الأشعار التي تغنى فيها بالعاطفة الإنسانية التي يسمونها الحب أو العطف أو الوداد وناجى فيها الله وتخوف وتشوف إلى الممات، وشاد بمجد وطنه واستنهض أبناءه إلى استعادة الماضي المجيد. في هذه القصائد والمقطوعات، التي كتبت أسمه في ثبت الخالدين، ظهر أثر الشعر الفرنسي بارزاً شاملا: بارزاً حتى يكاد يخفي وراءه كل أثر للشعر العربي، شاملا فلا يقتصر على الديباجة وحدها، ولا على المعاني وحدها، وإنما ينال الأسلوب فيضفي عليه جمالا ورواء، ويتعداه إلى الفكرة فيمزجها بروح غريبة لم يألفها الشعر العربي من قبل.
وهل ترى في الشعر العربي مثالا لهذه القطع التي أنشدها في الحب؟ كلا! فالشاعر العربي الغزل لا يرى في المرأة الا (أنثى) جميلة الوجه دقيقة القسمات، مهفهفة القوام رشيقة الأعطاف، رخيمة الصوت شيقة الحديث، يهصر صدرها ضما ويشبع ثغرها تقبيلا، وهي تتهافت وجداً وتتهالك هياما! والغزل في الشعر العربي يضيق عن أن يستفيض لجميع وجوه الجمال الإنساني، وينصب على ناحية الجمال الجسمي وحده، فيصفه جملة أو تفصيلا، سواء كان الغزل عذريا أو إباحياً أو متكلفاً. أما شعر صبري في الحب فيختلف عن هذا الغزل العربي في صلته بالمرأة، إذ يتسامى عن الجمال المادي إلى الجمال المعنوي في أرحب آفاقه وأشمل معانيه. فلا تستخفنا فيه هذه العيون والحدود، والصدور والنهود، والملاسة والرشاقة، والتقبيل والضم، والتأود والتثني، والتأوه والأنين وإنما نهتف فيه بالمثل الأعلى للمرأة في أفتن جمالها، وأذكى فؤادها، وأنبل روحها.
وأني لأشعر حين أقرأ قصيدته (تمثال جمال) أني أنظر إلى صورة فنية رائعة، فلا أميز بين هذه المرأة التي يهتف بها الشاعر، وبين هذه المرأة التي يتخذها المصور رمزاً لمعنى من المعاني الإنسانية كالألم أو الأمل أو الحنان! بل أني لأحس حين أرتلها أن قلبي قد صفا مما به من شره وأنانية وغرور وكبرياء، وأن صدري قد انطفأت فيه جذوات الحقد والحسد والغيرة والطماح، وأن فؤادي قد غمر الخشوع والإيمان ما يغشاه من شك وضلال: أشعر أني قد سموت من الأرض إلى السماء!