للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبينما هو في يقظته النائمة هذه، إذا بحجارين يحملون رخامة كبيرة، على جرارة ضخمة من هذه الجرارات الثقال، التي ترى كثيراً في محاجر اليونان، يقفون أمام الممثل، ويطرقون باب بجماليون، فينقدهم ثمن الرخامة، وينصرفون كل إلى طيته

وكأنما كانت هذه الرخامة، على ثقلها الهائل، وحياً خفيفاً من السماء، أو آية من آيات الأولب، هبطت على هذا المثال المهموم، فبدلت يأسه أملاً، وقنوطه المظلم رجاء نير الآفاق!

فانه لينظر إليها نظرات تشف عن التمثال الرائع الذي سيولده منها، وإنه لينزع ملابسه، ويضفي عليه ملابس العمل، ثم يتناول إزمليه ومنحته، ويهوى على الرخامة مستلهماً الحول والقوة من: (فينوس!!)

(يا فينوس الجميلة، يا ربة الحسن والحب، يا من تسبح لك القلوب العاشقة، وتلهج باسمك النفوس الوامقة، يا سر الورد الجميل، وبسمة الفنن الضاحك! يا أم كيوبيد الحالم، وبنت ديون الباسمة، يا فينوس الجميلة، العون العونيا فينوس!)

وهكذا لبث هنيهة يصلي، ثم أخذ في عمله، وكأن فكرة علوية تنزلت على فؤاده، وامتزجت بشغاف قلبه، فراح يصورها ويمثلها، في هذه الرخامة النقية كالندف، البيضاء كالثلج. بل كأنما استجابت فينوس ربة الحب لصلاته، فأودعت في يده نفحاتها المباركة. فما دق دقة، أو نقر نقرة، إلا وتمثل فينوس الجميلة أمامه، ناذراً لها هذا التمثال، برغم التماثيل البارعة التي نحتها لها، والتي تملأ معابد اليونان وأقداسهم

وأقبل على عمله بروح جديدة، ويد لا تكل، فلم يكن يحول بينه وبينه إلا الليليرخي سدوله، وإلا سنة من النوم ترقص في جفنيه، فإذا نام تتابعت الرؤى، وتلاحقت الأحلام، كل منها بيدي له ناحية كان يجلهها من جمال فينوس!

ولقد بدا له، كفنان، أن يروح عن نفسه بيوم يقضيه في الأدغال، وبين مسارب المياه، لكي يجدد نشاطه، ويبتعث ما خمل من ذهنه، وخبا من خياله، لطول ما أكب على العمل؛ فانطلق ذات صباح إلى سيف البحر يناجي أبوللو، وهو يوقظ الشمس من خدرها، فتعلو به في مركبتها الذهبية فوق الأثباج! وظل يعلو ويهبط، ويروح من هنا غادياً إلى هناك، حتى شارف اليوم أن ينتهي، وعاوده هواه الملح، فندم على ما قتل من ساعات في هذه الراحة

<<  <  ج:
ص:  >  >>