الخاملة، والفسحة الباطلة، فعاد أدراجه إلى الممثل، مستغفراً في طريقه الطويل فينوس!
ووصل ما انقطع من صنعته، فكان يستذكر أحلامه ليضفيها على التمثال، ويستوحي السماء فتلهمه من أديمها الصافي، وتشيع في يديه وقلبه بطهرها ونقائها، لتنتقل من ثمة سحراً وفتنة فوق تلك العضلة، وتحت ذياك الأبط، وبين انفراج هذين الثديين، وبالقرب من العكن، وحول الفخذين، وعند هذا الأنف الإغريقي الأشم، وملء ذاك الذقن الدقيق، والعنق الرقيق، ولفتة الحدقتين، وانفراجة الشفتين، وتبسيم الثغر، وتكويم الشعر، وتمليس الردف، وتدوير الكعبين. . . .
وتباركت يا فينوس!
لكأن بجماليون يحس الحياة تسيل من إزميله الحنون، فوق هذا الجوهر المكنون! وكان يتقدم فينظر، ويتأخر فيرى، ويميل من هنا، وينثني هناك، ثم يهطع إلى عل، وينحني إلى أسفل؛ ليتفقد التمثال من جميع نواحيه؛ فماذا رأى؟ لقد استطير من الفرح، ومادت أعطافه من الخيلاء! ولكنه سكن قليلاً، وانطلق يتحدث إلى نفسه:(ويحي! لم صنعتك أيها التمثال، مادمت قد بلغت هذا الجمال ولا تتكلم؟ أنا بجماليون التعس، الذي يعيش في هذا العالم القفر، وعلى هامش تلك الدنيا المجدبة، لا أنيس لي، ولا قلب ينبض بحبي، فينبض قلبي بحبه؛ ولا نفس تصلي لي، فاصلي من أجلها! تكلم أبها الرخام الصامت، وانفرجا بكلمة واحدة أيتها الشفتان الساحرتان! أنا بجماليون! أنا صانعك أيها الأنثى المتحجرة. . . تكلمي، ردي علي، فوحق فينوس المعبودة لقد أودعتك سر روحي، ولغز حياتي! أوه! ألا تردين على بجماليون المسكين؟ آه فينوس! النجدة يا فينوس! أنا لا أصلي إلا لك يا فينوس. . الغوث الغوث!. . .)
وظل المسكين مكباً على هذه الدمية التي صورها بقلبه كله، وروحه جميعها، يشكو إليها كأنها تسمعه، ويبثها كأنها تصغي إليه؛ ثم انتهى حاله إلى هيام شديد، وحب ودنف، ولوعة وصبابة؛ وانقلب عشقه المبرح إلى لون كاسف من الوجد، وضرب شديد من أمر ضروب الحزن؛ مصدره العقل الحائر والوجدان المضطرب. إذ كيف يعشق هذه الكتلة المجسمة من الرخام، وهي مما صنعت يداه؟ وأي أمل له في هذا العشق الشاذ؟ لا ريب أنه ضرب من الجنون، ما له من ضريب!