ثم زفر زفرة طويلة أبدلته من ضيق سعة ومن أزمة فرجا. ومع أنه لم يكن أثبت أن ما بدا له هو التفسير الحق لصفير الهواء، إلا أنه وثق بالذي ارتآه وثوقاً آثر معه أن يستعجل الغبطة والسرور. ونظر إلى القبابات وابتسم وقال:(كل القبابات التي استخدمتها فيما سبق كانت لها رقبة واسعة استلزمت حرارة كثيرة وتسخيناً طويلاً لتسيح ويتم ختمها. وهذه الحرارة الكثيرة تطرد الهواء من القبابة قبل لحامها، فلا عجب إذن أن يندفع الهواء فيها إذا فض اللحام)
وارتأى أن ما قاله نيدم عن إغلاء القبابات الملحومة في الماء وإفساده مرونة ما بداخلها من الهواء كلام هراء. ولكن أنى له بإثبات ذلك؟ أنى له بختم القبابة دون أن يطرد هواءها؟ وجاء شيطانه يوسوس إليه، فأخذ قبابة أخرى فوضع بها بذراً وملأ بعضها بالماء، وأدار رقبتها في اللهب الشديد حتى ساحت وضاقت حتى كادت تلتحم إلا ثقباً صغيراً ضيقاً يصل بينها وبين هواء الجو.
عندئذ برد القبابة؛ حتى إذا تمت برودتها قال:(إن الهواء بداخلها لا بد أن يكون مثله بخارجها. ثم جاء بلهب صغير سلطه على الثقب الباقي وهو كعين الإبرة فسده في لمحة دون أن ينطرد من هواء القبابة شيء. فلما اطمأن إلى ذلك وضع القبابة في الغلاية وأخذ يرقبها ساعة، وبينا هي تتأرجح وترقص في الماء كان هو ينشد الشعر ويترنم بالغناء. ثم نحاها أياماً، وفي ذات صباح جاء ليفتحها وهو واثق مما سيكون، فأشعل شمعة وأدناها من فم القبابة، وفي حذر شديد كسر فاها فسمع صفيراً، إلا أن لهب الشمع لم ينجذب إلى القبابة في هذه المرة بل مال عنها، دليلاً على أن مرونة الهواء داخلها أكثر من مرونته خارجها!
فكل هذا الغلي لم يفسد مرونة الهواء، بل على النقيض قد زاد مرونة، تلك المرونة التي قال نيدم بضرورتها لتلك القوة النباتية العجيبة. وأخرج اسبلنزانى من المرق القطرة فالقطرة، وعبثا حاول أن يجد فيها من الأحياء شيئاً برغم ازدياد مرونة الهواء. وأعاد التجربة فالتجربة بتلك المثابرة التي عرفناها عن (لوفن هوك)، وكسر قبابات وكب المرق على صدر قميصه ووسخ يديه، ولكنه لم يخرج على غير تلك النتيجة التي سلفت