للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تلاميذه وداعاً حاراً استطاع أن يذري فيه ما تيسر من الدمع. وركب البحر الأبيض فاعتوره دواره وآذاه إيذاء شديداً، وارتطمت سفينته بالصخر وتحطمت، ولكنه استطاع أن ينجو وأن ينجى ما كان قد جمعه من بعض جزائر البحر، وجاء السلطان فأولم له وسقاه وأكرم وفادته، وأذن له أطباء السراي في دراسة عادات السراري الجميلة. . . . . . وبعد كل هذا قال للأتراك، وهو الرجل الأوربي الطيب - رجل القرن الثامن عشر - قال لهم إنه يعجب بكرمهم، ويعجب بعماراتهم، وما تضمنته من الفن الجميل، ولكنه يمقت استرقاقهم للجواري والعبيد، ويمقت استسلامهم للأقدار والأقسام. فكنت تخاله يقول لصديقه الشرقي، والشرقي رجل جامد، تقول حوله الدنيا وهو قاعد، وتجري عليه الأيام وهو مركوم، وتنبو عنه الحوادث وهو ملموم، كنت تخاله يقول له: (نحن الغربيين سنفتح بعلمنا الجديد هذا من الأمور مالا يفتح، ونجتاز به مالا يرجى اجتيازه، وسنمحو عن الإنسان وبني الإنسان هذا العذاب الأبدي والشقاء السرمدي الذي يئست الدهور من محوه). كان اسبلتزانى يؤمن بالله، ويؤمن بقدرته وجبروته، ولكنه كان بحاثا نقاباً طلاباً للحقائق فكانت تغلبه غيرة الباحث وروح المنقب على كل ما يقوله، وتسيطر على كل ما يفكر فيه، حتى ينسى الله، وحتى ليعتذر عنه آنا فيسميه الطبيعة، وآناء أخرى فيسميه المجهول، وحتى دفعته إلى أن ينصب نفسه شبه وكيل أول لله، يفتتح وإياه مجاهل هذه الطبيعة الغامضة ويكشف أسرارها

وبعد أشهر عديدة قضاها في الشرق عاد أدراجه، لا عن طريق البحر هذه المرة، بل عن طريق البلقان، وأنفذت معه الحكومات من الجند أصوبهم رماية، وأولم له أشراف البلغار وأراء الأفلاق. وأخيراً دخل فينا عاصمة الإمبراطورية وذهب إلى الإمبراطور يوسف الثاني، صاحب نعمته وراعيه، ليقضي واجب الشكر ويقدم فرائض الاحترام. وكانت هذه الساعة أفحم ساعات حياته، وأملؤها بالمجد، ذلك المجد الذي يعطيه الملوك والأمراء. وأسكرته خمرة تلك الساعة، وذهب دبيبها إلى رأسه، ومشت سورتها إلى أعماق نفسه، فكنت تسمعه يقول: (ما أحلى تحقيق الأحلام). ولكن. . . .

(يتبع)

أحمد زكي

<<  <  ج:
ص:  >  >>