في هذا نشاطها في ذلك، فهي تعلو في السائل ثم تهبط، وهي تظل تتكاثر فيه أياماً. ألا ترى في هذا عجباً! ألم نقل دائماً أنه ما من حي يستطيع العيش من دون هذا الهواء)
كان اسبلنزانى معجباً بقوة خياله، معجباً بسرعة خاطره، وزاد إعجاباً بنفسه، وزاده غروراً إعجاب طلبته، وملق الأوانس والغواني، وإطراء الأساتذة العلماء، وتقريب الملوك الفاتحين. ولكنه كان إلى جانب خياله يتعشق التجربة، بل هو يقضى حقوق التجربة أولاً ثم يخال بعد ذلك، فان هي عارضت خاطرة بديعة من خياله الخصيب فسرعان ما كان يقر بالحق، وينزع عن خواطره مهما بلغت من الإبداع
وفي هذه الأثناء كان هذا الرجل الأمين، الغالي في أمانته في كل ما يتعلق بتجاربه، هذا الرجل الذي كان لا يخط قلمه إلا الحق الذي يجده بين روائحه الكريهة وأبخرته السامة وأدوات معمله اللامعة، هذا العالم الجليل الأمين، نعم أعيد فأقول الأمين، كان يتدنى إلى الحيلة الخسيسة ليزيد مرتبه في جامعة بافيا. هذا الرجل الشديد، لاعب الكرة، الكشاف، متسلق الجبال، يأتي إلى عاصمة النمسا متخاذلاً متواعكاً متأوهاًمتوجعاً، يشكو إلى رجال الحكم فيها سوء صحته، ويقول إن ضباب بافيا وأبخرتها تكاد تقتله. وأراد الإمبراطور أن يستبقيه فزاد أجره وضاعف إجازاته. وتحدث اسبلنزانى عن هذه الواقعة فضحك وسماها في خبث مداورة سياسية. هذا الرجل كان يصل إلى الغابة التي يريد فلا يقف شيء في سبيله. يريد الحقيقة فينالها بالتجربة البارعة والملاحظة القريبة والصبر المضني، ويريد المال والترقي فيناله بالعمل الشاق وأحياناً بالحيلة والكذب، ويريد أن يتقى ظلم الكنيسة واستبدادها فينال ذلك بدخوله قسيساً فيها
ولما كبر وطالت به السنون تشهى إلى تجارب غير تجارب معلمه، تجارب صخابة عنيفة يطلق فيها القياد لنفسه وحسه، فاعتزم أن يزور موقع طروادة القديمة لأن قصتها كانت تهزه هزاً؛ واعتزم أن يزور الشرق بحريمه وأرقائه وخصيانه، فقد كان يعتبر هذه الأمور جميعاً جزءاً من التاريخ الطبيعي كوطاويطه وضفادعه والحيوانات الصغيرة التي بنقيع بذوره. وشغل الشفاعات، وأعمل المحسوبية، واتصل ورجا، حتى أعطاه الإمبراطور إجازة عام، وأعطاه نفقة السفر إلى القسطنطينية، كل ذلك لاستعادة صحته واسترداد عافيته، وعلم الله ما كان أحسن صحته وأتم عافيته وقام اسبلنزانى فاختزن فباباته، وأغلق معمله، وودع