فهنالك الإنسانية المتصلة الشاملة المشتركة في الألم والهناء، الساخرة من هذه التقاليد التي فصلت بين أبناء الأصل الواحد. وإذا عدت إلى فصله (تمخضت الفأرة فولدت جبلاً) عرفت ذلك العدو الذي فكك بين وشائح الإنسانية الحقيقية، وجاء بوشائح كاذبة مستعارة يبني عليها حضارته الجديدة
ينظر نعيمة إلى الحياة المتآلفة في باطنها، المتنافرة في ظاهرها، حيث يمتزج كل شيء بشيء، ويتصل كل جزء بجزء، ولا جزء يستطيع أن يفنى بالانفصال. يبشر (نعيمة) بهذه الدعوة الإنسانية التي يجد عروقها مغروسة في الشرق، والتي بشر بها الشرق من أزمان. . . والإنسانية - في اعتقاده - لا تفر من نفسها إلا إلى نفسها - ولكن السامعين نداء أنفسهم قليل! وهي لا تقسم طرقها إلا لتجد سبيلها الواحد ومحجتها الواحدة
فلسفة تحب العرى النفسي المجرد والطبيعة السامية، ألم يقل لي في حديث له (هذا الجبل عاريا ما أجمله! أحب كل عار في الحياة لأنه يظهر على الحياة بحقيقته) إن الحياة عارية والإنسانية عارية، فلماذا نستر عريهما بأوهامنا وتقاليدنا؟ والحياة جوهر عار فلماذا نجعل منها مركباً تفرح لتركيبه عقولنا وتضل عنه أرواحنا؟ (الحياة شركة شاملة للواحد فيها ما للكل، وللكل ما للواحد. لأن الكل هو الواحد والواحد هو الكل. لكننا أفسدنا تلك الشركة بما أدخلناه عليها من روح الاستئثار والكسب عندما جعلنا ثمناً لكل هباتها التي لا تثمن. . .)
وهذه الإنسانية المجردة التي يبشر بها (نعيمة) قد لا تروق للبعض لضيق آفاقهم، ولأن عقولهم تزين لهم أن يطعنوا هذه الإنسانية ويردوها منهزمة مجرحة. . . وقد تثبت هذه الإنسانية أمام العقل، لأن (نعيمة) يستمد هذه الإنسانية من قلبه لا من عقله، فهو يريد لها القلوب وعاء لا العقول. وقد جرب (نعيمة) كما جرب غيره أن يقف على غاية الحياة بعقله، جرب كثيراً وتاه كثيراً لأنه كلما بلغ به عقله نقطة، ضاعت عنه الثانية، فليس له إلا ما يبلغه أمامه، وليس له من ورائه شيء، سار به عقله إلى سلسلة متناقضات يصارع بعضها بعضاً وينفي بعضها بعضاً، وأين سبيل النجاة أيها العقل؟
وأخيراً يجد نعيمة سبيل النجاة في واحة الخيال المنعتق من كابوس المقاييس الزمنية والمكانية والتفلت من قيود التقاليد. وجده في الخيال ووجد إنسانيته في الخيال، يخاطبه الناس بعقولهم ويخاطبهم بخياله وومضاته، أما طريق الوصول إليه، فهو الفن الذي يحمل