للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال الراوي: وانهزم الروم عن بلبيس، وارتدوا إلى المقوقس في (منف)، وكان وحي أرمانوسة في مارية مدة الحصار - وهي نحو الشهر - كأنه فكر سكن فكرا وتمدد فيه؛ فقد مر ذلك الكلام بما في عقلها من حقائق النظر في الأدب والفلسفة، فصنع ما يصنع المؤلف بكتاب ينقحه، وأنشأ لها أخيلة تجادلها وتدفعها إلى التسليم بالصحيح لأنه صحيح، والمؤكد لأنه مؤكد

ومن طبيعة الكلام إذا أثر في النفس - أن ينتظم في مثل الحقائق الصغيرة التي تلقى للحفظ؛ فكان كلام أرمانوسة في عقل مارية هكذا: (المسيح بدء وللبدء تكملة، ما من ذلك بد. لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة لا تأخذ شيئا، والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء.)

وجعلت هذه الحقائق الإسلامية وأمثالها تعرب هذا العقل اليوناني؛ فلما أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها، وانتهى ذلك إلى مارية قالت لها: لا يجمل بمن كانت مثلك في شرفها وعقلها أن تكون كالأخيذة تتوجه حيث يسار بها؛ والرأي أن تبدئي هذا القائد قبل أن يبدأك؛ فأرسلي إليه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك، واسأليه أن يصحبك بعض رجاله؛ فتكوني الآمرة حتى في الأسر، وتصنعي صنع بنات الملوك!

قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيرا منك في لسانك ودهائك؛ فاذهبي إليه من قبلي، وسيصحبك الراهب (شطا)، وخذي معك كوكبة من فرساننا

قالت مارية وهي تقص على سيدتها: لقد أديت إليه رسالتك فقال: كيف ظنها بنا؟ قلت: ظنها بفعل رجل كريم يأمره اثنان: كرمه، ودينه. . فقال أبلغيها أن نبينا (صلى الله عليه وسلم) قال: (استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم فيكم صهرا وذمة.) وأعلميها أننا لسنا على غارة نغيرها، بل على نفوس نغيرها

قالت: فصفيه لي يا مارية

قالت: كان آتيا في جماعة من فرسانه على خيولهم العراب، كأنها شياطين تحمل شياطين من جنس آخر، فلما صار بحيث أتبينه أومأ إليه الترجمان - وهو (وردان) مولاه - فنظرت، فإذا هو على فرس كميت أحم لم يخلص للأسود ولا للأحمر، طويل العنق مشرف له ذؤابة أعلى ناصيته كطرة المرأة، ذيال يتبختر بفارسه ويحمحم كأنه يريد أن يتكلم،

<<  <  ج:
ص:  >  >>