قالت: رأيته قصير القامة علامة قوة، وافر الهامة علامة عقل، أدعج العينين. . .
فضحكت أرمانوسة وقالت: علامة ماذا. . .؟
. . . أبلج يشرق وجهه فيه كأن فيه لآلاء الذهب على الضوء، أيدا اجتمعت فيه القوة حتى لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرا. . . داهية كتب دهاؤه على جبهته العريضة يجعل فيها معنى يأخذ من يراه؛ وكلما حاولت أن أتفرس في وجهه رأيت وجهه لا يفسره إلا تكرار النظر إليه. . .
وتضرجت وجنتاها، فكان ذلك حديثا بينها وبين عيني أرمانوسة. . . وقالت هذه: كذلك كل لذة لا يفسرها للنفس إلا تكرارها. . .
فغضت مارية من طرفها وقالت: هو والله ما وصفت، وإني ما ملأت عيني منه، وقد كدت أنكر أنه إنسان لما اعتراني من هيبته. . . . .
قالت أرمانوسة: من هيبته أم من عينيه الدعجاوين. . .؟
ورجعت بنت المقوقس إلى أبيها في صحبة (قيس)، فلما كانوا في الطريق وجبت الظهر، فنزل قيس يصلي بمن معه والفتاتان تنظران؛ فلما صاحوا:(الله أكبر. . .!) ارتعش قلب مارية، وسألت الراهب (شطا): ماذا يقولون؟ قال: إن هذه كلمة يدخلون بها صلاتهم، كأنما يخاطبون بها الزمن أنهم الساعة في وقت ليس منه ولا من دنياهم، وكأنهم يعلنون أنهم بين يدي من هو أكبر من الوجود؛ فإذا أعلنوا انصرافهم عن الوقت ونزاع الوقت وشهوات الوقت، فذلك هو دخولهم في الصلاة؛ كأنهم يمحون الدنيا من النفس ساعة أو بعض ساعة؛ ومحوها من أنفسهم هو ارتفاعهم بأنفسهم عليها؛ أنظري، ألا ترين هذه الكلمة قد سحرتهم سحرا فهم لا يلتفتون في صلاتهم إلى شيء؛ وقد شملتهم السكينة، ورجعوا غير من كانوا، وخشعوا خشوع أعظم الفلاسفة في تأملهم
قالت مارية: ما أجمل هذه الفطرة الفلسفية! لقد تعبت الكتب لتجعل أهل الدنيا يستقرون