إلى الناس على تلك الهيئة، فقبل جميعهم لي الأرض وسلموا علي بالخلافة)
وقع هذا المنظر في مدينة بلبيس حيث أدرك العزيز مرض موته كما قدمنا؛ وفي صباح اليوم التالي - وهو يوم الأربعاء ٢٩ رمضان - سار الحاكم إلى عاصمة ملكه في موكب فخم تظلله أبهة الخلافة، رهيب يظلله جلال الموت؛ وأمامه جثة أبيه، وقد وضعت في عمارية برزت قدماه؛ وعلى رأسه المظلة يحملها ريدان الصقلبي، وبين يديه البنود والرايات؛ وقد ارتدى دراعة مصمت وعمامة يكللها الجوهر، وتقلد السيف، وبيده رمح. فدخل القاهرة عند مغيب الشمس في هذا الحقل الرهيب الفخم؛ وفي الحال أخذ في تجهيز أبيه؛ فتولى غسله قاضي القضاة محمد بن النعمان، ودفن عشاء إلى جانب أبيه المعز في حجرة القصر. وفي صباح اليوم التالي، أعني يوم الخميس، بكر سائر رجال الدولة إلى القصر، وقد نصب للخليفة الصبي في الإيوان الكبير، سرير من الذهب، عليه مرتبة مذهبة؛ وخرج من القصر إلى الإيوان راكبا وعلى رأسه معممة الجوهر، والناس وقوف في صحن الإيوان فقبلوا الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على عرشه، وسلم عليه الجميع بالإمامة وباللقب الذي اختير له وهو:(الحاكم بأمر الله) ونودي في القاهرة والبلدان، أن الأمن موطد والنظام مستتب، فلا مؤونة ولا كلفة، ولا خوف على النفس أو المال
وأوصى العزيز قبل موته بولده ثلاثة من أكابر رجال الدولة هم برجوان الصقلبي خادمه وكبير خزائنه؛ والحسن بن عمار الكتامي زعيم كتامة، أقوى القبائل المغربية وعماد الدولة الفاطمية منذ نشأتها؛ ومحمد بن النعمان قاضي القضاة. وعهد بالوصاية الفعلية إلى الأول والثاني. وكان برجوان، ويسمى أبا الفتوح، خصيا صقلبيا، ربي في القصر، واصطفاه العزيز بالله وولاه أمير القصر، وخلع عليه لقب (الأستاذ) وهو من ألقاب الوزارة في الدولة الفاطمية، وعهد إليه بمهام الأمور، وأولاه ثقة عظيمة. وكان ابن عمار رجلا قوي الشكيمة، وافر العصبة؛ ولكن برجوان كان بظروفه وطبيعة منصبه أوثق اتصالا بالخليفة الصبي، وأشد تأثيرا فيه ومقدرة على توجيهه؛ فلم يلبث أن نشب الخلاف بين الرجلين واشتدت المنافسة بينهما، وقام ابن عمار بتدبير الشئون بادئ بدء، وتلقب بأمين الدولة، وهو أول لقب من نوعه في الدولة الفاطمية؛ واقتسم الكتاميون من صحبة وشيعته السلطات والمناصب، وعاثوا في شئون الدولة ومرافقها؛ وحرضه بعضهم على قتل الحاكم والتخلص