نهرا يجري فلا يحس إحساسا كاملا بروعة مياهه وقوة تياره، وما على شاطئيه من رمال ونباتات أو غابات وصخور. قد لا يفطن الناظر إلى هذا النهر للجمال المختبئ في هذه المناظر الطبيعية الفسيحة الضخمة الهائلة. فينصرف عن النظر إليها إلى صورة رسام أو مصور ماهر قد صور هذا النهر وهو يتدفق ويتغلغل في الأحراج والجبال
وليس معنى هذا أن النهر الجاري أقل جمالا وروعة من صورة الرسام، لا، بل إن الناظر نفسه لم يفطن إلى هذا الجمال الأصيل في تلك المناظر الطبيعية العظيمة، لأنه جمال متشعب فسيح. فلما جاء الفنان وحصره في لوحته الصغيرة، أمكنه أن يشعر به، وأن يقف على أسراره الدفينة؛ ولو أمكن الرائي أن يدرك الجمال الطبيعي في مظهره الطبيعي لوجده جمالا خالصا عبقريا. ولكن عين الإنسان لا تستطيع أن تأخذ النهر الجاري من منبعه إلى مصبه، أو أن تلقي نظرة كاملة على الجبل الشامخ من قمته إلى سفحه. فإن حاولت ذلك لحقها الكلل والملال، وفضلت النظر في الصورة على التطلع إلى المرئي ذاته مهما يكن جماله وروعته
هذا هو الشائع بين الناس. ومن أجل هذا قيل إن الفن يكمل ما عجزت عنه الطبيعة، والحقيقة أن الفنان لا يزيد شيئا على ما في الطبيعة من ثروة وغنى، وإن كان يحصر هذه الثروة ويبرزها في صورة جميلة ومنظر بهي. . .
هذا شيء، والشيء الآخر هو أن الفن ليس محاكاة للطبيعة أو للحياة، ولكنه خلاصة ما في الطبيعة والحياة
فالفن قد يحاكي الطبيعة، وقد يحاكي الحياة، ولكنه لن ينسخ من الطبيعة أو الحياة صورا متشابهة متطابقة، فهو محاكاة وليس نسخا. والفرق بين المحاكاة والنسخ هو أن الفنان الذي يحاكي الطبيعة يأخذ منها ما يجده ملائما لفنه، أي ينتقي أروع ما فيها من الآثار، ثم يسلط عليها قوانينه الفنية فيلم أجزاءها ويعطي لها الوضع المناسب الجميل، فتبرز للرائي جديدة ضافية في حلل الجدة والإبداع
أما النسخ، فهو صورة طبق الأصل للطبيعة. ولو كان الفن نسخا للحياة لما أحسسنا بعظمة الفن الأصلية وسحر قوته الدفينة، ولجاء ثقيلا مضطربا مشوها كالحياة ذاتها. ولما وجدنا فيه هذا الشعور الخفي الذي يسكن آلامنا، ويريحنا من آلام الحياة وعنت الأيام. بل لما