للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اعتبرنا الفن مأوى لنا نلجأ إليه كلما أثقلتنا متاعب الحياة وضقنا بمطالبها ذرعا، ولما كانت لنا حاجة ماسة إليه. فلو كان الفنان يقدم لنا جبلا كالجبل الذي نتسلقه، أو نهرا كالنهر الذي نعبره، أو مرعى مخضوضرا قد انتثرت فوقه الأغنام والمواشي، كتلك المراعي التي نراها كل يوم في قرانا، لما اهتززنا لصوره، ولما أدركنا لها سر أو معنى

ولو كان الفن يصور لنا حادثة يومية، أو عملا من أعمالنا العادية التي نلامسها كل يوم دون أن يخلع عليها شيئا من شعوره وشخصيته، لما شعرنا بحاجة الحياة إليه، ولما عملنا على نموه وازدهاره واكتفينا بالتاريخ

ولكن الفن لا يقدم لنا كل ما في الطبيعة ولا كل ما في الحياة، ولكنه يختار أروع ما في الطبيعة، وأجمل ما في الحياة، ثم يقدم لنا هذه في شكل رائع جذاب، وفي صورة فنية جميلة

هذا هو السبب الذي من أجله نلجأ إلى الفن ونهرع إليه كلما أثقلتنا الحياة أو ثقلت علينا الطبيعة. فنحن لا نعمل في هذه الحالة أكثر من أن نتخلص من بعض هذه المنغصات أو الأشياء الثقيلة الجافة التي يتجاهلها الفن، ولا يقف عندها أو يأبه لها

والفن لا يختار في الغالب موضوعه من الحياة الظاهرة، أو من تلك المرئيات التي تلوح للعين في كل يوم، ثم تختفي وكأنها لم تكن، وإنما يختار موضوعه من قلب الطبيعة، ويتخذ مادته من لب الحياة

فالفنان العظيم حقا هو الذي ينفذ إلى الحياة الداخلية، وهو الذي يتغلغل في أعماق الطبيعة، ويقف على كامن أسرارها ويبرزها للعين والحس في صورة فاتنة أخاذة

فهو لا يصور كل ما يحس به أو يقع عليه بصره، وإنما يفكر كثيرا فيما يبدعه للناس. فلا يختار إلا ما كان عميقا في النفس، أصيلا في الطبيعة. وهو في عمله هذا يخالف المدنية كل المخالفة، لأن المدنية تطور الحياة الظاهرية، الحياة الحسية؛ أما الفن فهو تطور لحياتنا الداخلية. فهو يتصل بالقلب الإنساني والفكر الإنساني، أما المدنية فتتصل بأعمال الإنسان وأحداثه في هذه الحياة المائجة الصاخبة. لذلك كان الفن أصيلا في أصوله ثابتا في جوهره، وكانت المدنية سريعة التغير، كثيرة التباين والاختلاف. .

وليس معنى هذا أن الفن جامد محافظ، عدو للتطور، ولكنه في الحقيقة في تغير دائم، وإن

<<  <  ج:
ص:  >  >>