غيره: لم لا أذهب؟ إني سأجدهم فأردهم على قريش. ولكن ألم تعجز رسل قريش عن أن تهتدي اليهم؟ فكيف أجدهم أنا؟. . . بل سأجدهم، إني سالك كل طريق تؤدي إلى المدينة. . . ولكن يا للسخف! ألم تسلك رسل قريش هذه الطرق كلها؟
ولما أضناه التردد أزمع أن يستفتي الحظ، ويهتدي بالمصادفة - فأخرج أزلامه فاستقسم بها، وحاول أن يشتف الغيب من خلالها: إن خرج الزلم الذي أكره (لا يضره) لم تكن النياق لي. وإن خرج الذي أحب (يضره) كانت لي، إن الحكم للأزلام. . .
وضرب بيده فخرج الزلم الذي يكره، فتألم واشتد ذلك عليه، لأنه إنما عمد إلى الأزلام ليستمد منها العزم على الذهاب لا الرغبة في القعود، ثم قال:
إنها أول مرة، وهي للشيطان! وإني ضارب الثانية، إن الثانية لآلهتنا، وضرب الثانية فخرج الزلم الذي يكره. فقال لنفسه: ما لي؟ وهل يقنع امرؤ بمرتين؟ إن المعول على الثالثة. وضرب الثالثة فخرج الزلم الذي يكره. . . فتصبب على جبينه العرق البارد، فألقى الأزلام حنقاً، وأمر غلامه أن يسرج فرسه ويقوده إلى بطن الوادي!
وتريث سراقة حتى إذا تصرم الليل، أسحر سالكاً طريق المدينة فسار فيه إلى الصباح فلم يقع من القوم على أثر. فعاد أدراجه يتبع طريق الساحل فلا يلقى فيه أحداً، حتى زالت الشمس؛ وحميت الظهيرة، وتسعرت الأرض، وأحرق جوفه العطش، وكان ينهزُه الطمع فيعدو فرسه عدواً شديداً، حتى يرى الآكام هي التي تسير عن يمينه وشماله، يأخذ بعضها بسفوح بعض. . . ثم يدركه القنوط فيدع الفرس يمشي متباطئاً متخاذلاً. . . حتى إذا بلغ منه التعب والعطش والجوع واليأس نظر فإذا عند الغار من جبل ثور محمد وصاحبه. . . فصبت القوة في عضلاته، وعادت إليه الحمية والنشاط، فصاح في الفرس، فانطلق نحو الغار كالسهم المرسل؟
قال أبو بكر رضي الله عنه:
. . . فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت
فقال: ما يبكيك؟
قلت: ما والله على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت فرسه في