فلما رأى سراقة ما رأى، وثب عن الفرس، وقد طار الخوف بلبه، وأبرأه الفزع من داء الطمع، وصاح:
- يا محمد! قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنقذه الله. . . وكلمه فكان من قوله له:
- كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟
ورجع سراقة، وقد اجتمعت عليه منذ اليوم المتناقضات من الأفكار والعواطف، وهاج نفسه الطمع والخوف، والأمل واليأس، فجعل يقهقه في هذه البادية، ويصرخ كمن به جنة، ولم لا يجن؟ وقد كان يأمل أن ينال الغنى ففاته ما كان يأمل، وقد فتحت فاها لتبلعه الأرض فنجا، ولم يصدر بعد هذا كله إلا بوعد دونه خرط القتاد، وخرق النار، وخوض البحار. . .
- ماذا؟ أيعدني محمد سواري كسرى، كسرى شاهنشاه ملك الملوك. . . وهو يقطع الصحراء هارباً من قومه، مختفياً في غار.
- ليس معه إلا رجل واحد - أيبتلع هذا الغار ملك كسرى وجبروته وجلاله؟ أتنتصر هذه الصحراء على ملك كسر وجنانه وأنهاره؟ أيغلب هذان المهاجران كسرى على خزائنه وجنوده وبلاده؟ ولو أن العرب اجتمعت كلها، ورمت عن قوس واحدة، ما نالت من كسرى منالاً، على أنها لن تجتمع العرب قط، ومن ذا الذي يجمع مضر بن نزار وقحطان. . . وبكراً وتغلب. . . وعبساً وذبيان. . . وأين يذهب ما بينها من دماء؟
أما إن قريشاً كانت أدرى بصاحبها حين قالت عنه ما قالت فما أراه يعجبه أن ينجو من قريش، ويفلت من أذاها حتى يكون له ملك كسرى. . . إنه والله ما يريد إلا أن يتركنا (نحن أيضاً) مجانين!
وانطلق يقهقه ويصرخ:
ويحٌ لك يا سراقة! ستلبس سواري كسر. . . كسرى شاهنشاه ملك الملوك
والفرس ينفر من صراخه، فيطير على وجهه حتى اختفى وراء الآكام. . .