بين أن ينتصر القانون وبين أن تجتاح القوة كل سياج وكل حرمة. فأدرك العلماء أن واجبهم يناديهم بالمحافظة على القانون، ولم يترددوا لحظة، بل هبوا لينصروا الحق لم يتخلف منهم واحد، وكان على رأس الحركة الشيخ الدردير رحمه الله وطيب ثراه. أرعد الأمير وأبرق، وأرغى وأزبد، ونهر وتوعد، غير أن العلماء وقفوا وثبتوا، وأرغوا وأزبدوا في سبيل الحق والقانون. وقام الشعب من ورائهم يؤيدهم، وكانت مظاهرة كبرى، فأغلق الناس حوانيتهم انتصاراً للعلماء والشرع، وأوشك الأمر أن يفضي إلى فوضى شاملة. فجزع عقلاء الأمراء المصريين من تلك الحال وأشفقوا أن تسيل الدماء وأن تعطل المصالح. فاجتمعوا وتشاوروا ثم أرسلوا إلى الأمير المعاند فاحتجوا على موقفه وأمروه بالنزول على ما أراد القانون، فأذعن وهو كاره بعد مشادة عنيفة، ولم يرض العلماء أن يتركوا الأمر يفلت من أيديهم بغير حق مسجل يكتسبونه للناس، فكتب لهم صلح رسمي به شروط على الأمراء وتعهد من الحكام بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه العرف. وهكذا كان العلماء يكسبون للشعب حقوقه حقاً حقاً ويبنون في دستور مصر حجراً بعد حجر وإن كانوا في ذلك يسيرون في تؤدة وبطء.
وإنا إذا ذكرنا اسم السيخ الدردير فلسنا نذكره إلا لأنه كان علم القوم وزعيمهم. ولقد كان معه عدد كبير من إخوانه يستند إليهم وينتصر بإمدادهم. وفي الحق إن العلماء بمثل هذه الهمة لم ينزلوا ولم يسمحوا لأنفسهم أن ينزلوا إلى موضع المهانة في تلك الأيام التي يصفها البعض بأقسى النعوت. بل لقد كانوا أكفاء لأعلى الرؤوس في الدولة؛ ثارت مرة مناقشة حادة بين بعضهم وبين أمير من كبار الأمراء في مسألة قانونية، فخرج الأمير الغاضب عن حدود الأدب بأن قال للعالم:(والله أكسر رأسك) فكان جواب العالم الغاضب أشد وأقسى، إذ قال له صارخاً:(لعنك الله ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن جعلك أميراً) وتوسط من كان بالمجلس من الأمراء فيما بينهما. ولم يجد الأمير بداً من الإذعان لما يقضي به الشرع حسب ما رآه العلماء.
وكان بيت العالم حرماً لا يعتدي عليه مهما كان الباعث على ذلك، فقد كان بعض الأمراء يهربون خوفاً من انتقام منافسيهم فلا يجدون ملجأ يهربون إليه ويعتصمون به إلا بيت العالم يدخلونه ليأمنوا فيه. وقد طلب من أحد العلماء مرة أن يسلم جاره الأمير الذي دخل بيته