والقادة يمزق الصفوف ويجعلها شيعاً وأحزاباً، وكانت عوامل الغيرة والحسد تعمل عملها في نفوس القبائل والبطون المختلفة. وأشد ما كانت تستعر نار الخلاف والتنافس بين اليمنية والمضرية، وذلك لأسباب عديدة ترجع إلى ما قبل الإسلام، منها أن الرياسة كانت لعصور طويلة قبل الإسلام في حمير وتبًع أعظم القبائل اليمنية، وكانت لهم دول ومنعة وحضارة زاهرة، بينما كانت مضر بدواً خشنين يخضعون لحمير ويؤدون لهم الجزية؛ وكان بينهما خصومات وحروب مستعرة طويلة الأمد؛ ولنا في (أيام) العرب ووقائعها المشهورة أمثلة رائعة من هذا النضال. قال ابن خلدون (واستمرت الرياسة والملك في هذه الطبقة اليمانية أزمنة وآماداً بما كانت صبغتها لهم من قبل، وأحياء مصر وربيعة تبعاً لهم - فكان الملك بالحيرة للخم في بني المنذر، وبالشام لغسان في بني جفنة ويثرب، وكذلك في الأوس والخزرج، وما سوى هؤلاء من العرب فكانوا ضواعن بادية، وأحياء ناجعة، وكانت في بعضهم رياسة بدوية، وراجعة في الغالب إلى أحد هؤلاء. ثم نبضت عروق الملك وظهرت قريش على مكة ونواحي الحجاز؛ فاستحالت صبغة الملك اليهم، وعادت الدول لمضر إلى بينهم، واختصت كرامة الملك بالنبوة منهم، فكانت فيهم الدولة الإسلامية كلها إلا بعضاً من دولها، قام بها العجم اقتداء بالملة وتمهيداً للدعوة). وهكذا أسفر، النضال لظهور الإسلام عن تحول في الرياسة، وانقلبت الآية فأصبحت المضرية تعمل على الاحتفاظ برياستها، واليمنية تجاهد في انتزاعها منها. وكانت مسألة اللغة أيضاً من أسباب ذلك الخلاف. ذلك أن لسان الحمير كان أصل اللغة العربية التي اعتنقتها مضر، وأسبغت عليها آيات من الفصاحة والبيان، ونزل بها القرآن الكريم على النبي القرشي المضري، فكانت اللغة من مفاخر مضر تغار عليها، وتحافظ على سلامتها ونقائها، أضف إلى هذا وذاك ما كان بين الفريقين من تباين شديد في الطبائع والخلال مما كان يذكي بينهما أسباب التنافس والتباعد، وقد كان الإسلام مدى حين عاملاً قوياً في جمع الكلمة، ولكن العصر الأول ما كاد ينقضي حتى هبت كوامن الخصومة والنضال من مرقدها وعادت تعصف بوحدة المجتمع الإسلامي، وكان هذا الخلاف أخطر وأشد في الأقطار القاصية التي افتتحها الإسلام بالسيف، ففتحت أمام القبائل والأجناس المختلفة التي تعمل تحت لوائه مجالاً واسعاً للتنافس والتطاحن؛ وكان هذا هو بالأخص شأن المجتمع الإسلامي المضطرب الذي قام بأسبانيا.