ورد عليه عثمان حتى شرى الشر بينهما، فقام الرجل فلطم عين عثمان فاخضرت، والوليد بين المغيرة بمجلس قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال:(أما والله يا ابن أخي، إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة!)
قال عثمان:(والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر!)
فقال له الوليد:(هلم يا ابن أخي، فعد إن شئت إلى جوارك!)
قال عثمان:(لا. . . . . . . . .)
وسار في سبيله عامر القلب بالإيمان، طيب النفس بما يبذل في سبيل الله، قرير العين بأنه لم يلجأ إلا إليه. . .
ومضى المشركون في عدوانهم لا رفق ولا هوادة؛ وآذى النبي ما يلقى صحابته، فدعاهم إلى اللحاق بمن سبق من المهاجرين إلى الحبشة.
وخرج عثمان فيمن خرج، عائداً إلى المهاجر النائي طاعةً لرسول الله. فأقام هناك ما أقام، ضيق النفس على سعة من العيش، مكروباً من الغربة على الأمان والأذى!
وتصرمت السنون عاماً بعد عام وهو يكافح الشوق والحنين، حتى أذن له أن يفارق الحبشة بعد ست سنين، لا إلى مكة الحبيبة إليه، ولكن إلى المهجر الثاني، إلى المدينة، من مغترب إلى مغترب. فما مضى عام وبعض عام على مقامه حتى مل غربته، فودع دنياه إلى الوطن الباقي بقاء السموات والأرض، إلى جوار الله. ومات أول من مات من المهاجرين بالمدينة!
وقبله النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يبكي وعيناه تذرفان، ووسده الثرى ونفض يديه من ترابه، ولكن ذكراه ظلت حية في قلبه؛ فلما مات ولده (إبراهيم) زوده بالتحية إلى الشهيد الغريب، وودع ولده الواحد وهو يقول:(ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مضعون!).
يا ابن مضعون، فرغت من أمر الدنيا وآلامها، بعد أن قضيت أيامك على الأرض تتقاذفك الفلوات من غربة إلى غربة. ولم تبك، وبكت لك دموع النبوة؛ دموع تقدمك إلى الله يثيبك، وتقدمك إلى التاريخ يترحم عليك. وفي الوقت الذي يسلب الملوك فيه تيجانهم وضع عليك التاج. . .!