وجدعت أنفه وأذنيه؟ فما له لا يعفو عن عبد مأمور؟ ولكنه قال للعبد: غيب وجهك عني، فجعل العبد لا يرى رسول الله إلا تنكب طريقه واجتنب لقاءه.
وعاش وحشي في المدينة حراً كالعبد، وطليقا كالأسير، وجعل الندم يحز في قلبه حزاً، ويمزق فؤاده تمزيقا، يؤرقه إذا دنا الليل، ويعذبه إذا أقبل النهار.
ولكن العرب يرتدون، ويذهب خالد بن الوليد لقتال مسيلمة، وهذا العبد يذهب معه ليقاتل في سبيل الله بعد أن كان يصد عن سبيل الله.
وهذا العبد يهز حربته ذات يوم كما هزها يوم أُحد، ويتهيأ ليرميها كما تهيأ يوم أُحد، وإذا هي تصيب رجلا فتصرعه، وإذا الحربة التي قتلت حمزة قد شاركت في قتل مسيلمة، وإذا وحشي قد قتل خير الناس، وقتل شر الناس. وقد عفا النبي عن قاتل عمه، وعفا الناس عن قاتل أسد الإسلام، ولكن نفس وحشي لم تعف عن وحشي، ولكن دم مسيلمة لم يغسل من نفسه دم حمزة. وهذا العبد الحر يمضي مع جيوش المسلمين غازياً فيقاتل الروم وينتصر مع المنتصرين، ويستقر مع المستقرين في مدينة حمص هذه. ولكن بلاءه أيام الردة وبلاءه أيام الفتح، وما أحتمل هذا كله من جهد، وما ناضل في هذا كله عن الإسلام، لم تغسل عن نفسه دم حمزة، ولم تبرئ نفسه من الندم لمقتل حمزة؛ ولم يبلغ الإسلام من قلب هذا الرجل ما بلغ من قلوب كثير من الناس فيمحو من قلبه ما قدم في جاهليته، وإذا هو يستعين على الندم بالخمر، وإذا هو يشرب ويسرف في الشرب، وإذا هو يضرب في الشراب فلا يمنعه الحد من معاودة الشراب، وإذا هو معروف في أهل حمص بما قدم من خير وشر، وإذا هو معروف في أهل حمص بسكره إذا سكر، وبصحوه إذا صحا، وإذا هو يسكر حتى يصبح مخوفاً على من يدنو منه، حتى يصبح عاقلاً حلو الحديث. والندم يلح عليه حتى يبغضه إلى نفسه تبغيضاً، ويصرفه عن الصحو صرفاً، وكلما مضت الأيام ازداد إمعاناً في الشراب، والسن تتقدم به، وجسمه يضعف شيئاً فشيئاً، وعقله يذهب قليلاً قليلاً، والندم ماثل مع ذلك في نفسه، ملم بداره، يأخذه من كل وجه، وهو لا يجد سبيلاً إلى الفرار منه إلا إلى الشراب، وهو يُضرب في الشراب، وقد ضعف وفني فلا يحتمل الضرب فيموت. ونشهد جنازته اليوم.
أرأيت أني لم أكن ملمحاً ولا مؤثراً للغموض حين كنت أحدثك بما كنت أحدثك به من هذّه